فلا يلبث أن يمسك القلم فيجري السواد على بياض الورق، فإذا هي مقالة أو كتاب أو رأي أخبث منه صاحبه والناطق به، فيأخذه المبتدئ المتطلع، فيعتقده كأنه لقطة نفيسة بغير تحقيق ولا تمحيص، فإذا سمع رأيًا يخالف ما قرأ لهذا الكاتب البليغ أو الأستاذ الكبير أو الفيلسوف القدير، أنكره وأدبر عنه، فيزيده هذا الإنكار لجاجة، وتزيد اللجاجة عنادًا، ويملأه العناد كبرًا، فيعمى عن الحق وهو بين، ولا يزال يهوى في العناد حتى يصير ذلك عادة في مسألة بعد مسألة ورأي بعد رأي، وإذا هو عند نفسه أكبر من أن يأخذ عن فلان لأنه يخالفه في الرأي.
وتزيد الدولة هذا الأمر ضراوة واستعارًا، فتولى الأمور غير أهلها، وتضع الناس في غير منازلهم، وتكرم فلانًا بإلحاقه بوظيفة كذا لأنه من أشياع الحزب الذي يتولى الحكم، فإذا خافت عليه أن ينتزع من مكانه إذا جاءت وزارة أخرى، ألحقته بعمل لا يقبل العزل. فإذا جاء وزير للمعارف مثلا وله أصحاب مِن شيعته ممن عرفوا بشيء من الأدب ألحقه بالمجمع اللغوي مثلًا تكريمًا له، فيريد هذا الرجل أن يحقق معنى هذا التكريم على ما خيلت، فينبري لإبداء الرأي فيما لا يحسن، ويكشف عن عورة من الجهل لا تستر. وليتها كانت رأيًا بدا له فكان صاحبه الأول، كلا، بل هو يعمد إلى آراء أماتها الذي أمات الخرافات والأساطير فيخيل إليه أنه -وهو الأديب المؤلف الكاتب- مستطيع أن يحيي هذه الرمم البالية برأيه وحجته وحسن معرضه، فكيف تكون مغبة هذا الجهل على شاب ناشيء يقرأ ملفقات السخف المدلس، وليس عنده قدرة على تمحيصه.
ويأتي آخر يلقيه وزير صديق مثلا على كرسي الجامعة ليدرس العلم لطلاب العلم، فإذا هو عازم على أن ينشيء علمًا جديدًا لطلابه، فيبحث في تجاريب عقله عن أشياء يخيل إليه أنها فن جديد وبلاغة جديدة وعلم لم يصل إلى إدراكه سابق ولن يناله لاحق إلا بالتلقي عنه والوقوف بين يديه. ويخرج هذا الأستاذ جيلا من مساكين الطلاب لا يحسنون شيئًا إلا التعصب له والتسمي باسمه والتشبه به في فساد الرأي وقلة العلم وضعف الملكة. ويجتمع منهم ومن شيخهم فئة تتهجم على العلم بغير علم، فإذا أراد أحد أن يقف في سبيلها تناعقت باسم حرية الرأي