خصمه وجعله يضطرب بين يديه وإن كان أقوى منه بأسًا وأشد صولة. وقد نفي "النقراشى" الخوف من قلبه، فوقف "كادوجان" بين يديه مضطرب الحجة حتى لم يجد لنفسه مناصًا من أن يلجأ إلى الأكاذيب القديمة التي ألفتها بريطانيا وبرعت في تزويقها وتزويرها تريد بذلك أن تسحر عقول الناس. ولو كان الساسة العرب قد حرصوا على أن يكون هذا موقفهم في كل أمر وفي كل عهد وفي كل ساعة، لما أتيح للاستعمار البريطاني والفرنسي أن يبقي ضاربًا بجذوره في بلادنا إلى هذا اليوم من أيام الناس. فهذه جرأة اللسان، فعلى ساستنا منذ اليوم أن يتبعوا ذلك بجرأة أخرى هي جرأة العمل، ولو فعل الساسة أفعالهم بجرأة وشمم وإباء على الضيم، لما رأينا اليوم بلدًا كمصر والسودان يعج بالمستهترين من الأجانب والمشردين وصعاليك الأمم، يستولون على أمواله وأراضيه وأخلاق بنيه باسم حرية المهاجرة وحرية التجارة وحرية العمل. لقد أظلهم الاستعمار البريطاني بظله وحماهم حتى بات المصري والسوداني غريبًا في بلاده، يأكله كل طارئ، ويدعه جوعان عريان منبوذًا في بلاده وتحت سمائه.
وعبرة أخرى هي أن التساهل مخافة العواقب شر كله. فقد رأى بعض ساستنا أنهم إنما يفعلون خيرًا كثيرًا لبلادهم إذا تساهلوا لبريطانيا في بعض الحقوق، ظنًّا منهم أن ينالوا من وراء ذلك حقوقًا أخرى هي أولى بالتقديم والنظر والاهتمام، فكانت العاقبة أن دخلنا مع بريطانيا في الدائرة المغلقة التي يسمونها "المفاوضة". فإذا نحن نضيع حقوقنا كلها جملة واحدة، وإذا بريطانيا تريد أن تحتج علينا اليوم بما تساهل به أولئك الساسة في حقوق بلادهم، فتأكل علينا حقنا كله حين تريد أن تمنعنا من أعظم الحقوق البشرية وهي الحرية. وتريد أن يقطع قلب مصر بقطع السودان عنها، لأن قومًا من الساسة غفلوا زمنًا طويلا عن رفض كل اتفاق لا يشمل السودان كما شمل الجزء الشمالى من وادي النيل وهو مصر، فارتضوا أن يعلقوا مسألة السودان ويأخذوا من عبث بريطانيا ما زورته لهم وخدعتهم به ثم هي اليوم تمن علينا أنها أعطتنا تلك الفضلات التي لا يعبأ بها إلا الذليل الخانع المقيم على الضيم.