وعبرة ثالثة هي أن زعماء الثورة على العدو ينبغي أن يظلوا أبدًا زعماء الثورة، لا رؤساء حكومات تحت ظل حماية مقنعة تسمى استقلالًا كذبًا وتضليلًا في العرف الدولى. فكان ينبغي لهؤلاء الزعماء أن يظلوا بمنجاة من إثم الحكم تحت ظل الاستعباد البغيض وأن يكونوا دائمًا أيقاظًا لا تنيمهم شهوة الحكم، وبذلك يضمنون لبلادهم أن تظل يدًا واحدة على العدو، وأن تظل يقظة متنبهة لا يخدعها لفظ "الاستقلال" عن الخبث الذي انطوى عليه وأن يصارحوا الشعب دائمًا بالحقيقة التي لا تستر، وهي أنه صار "مستقلا" في العرف الدولى، وأن يكشفوا له ما استطاعوا عن خدع الاستعمار الذي يعبث بهم. وإلا فأي خديعة كانت أكبر على هذا الشعب من خديعة الناشئة في المدارس والبيوت، وهم يقرأون ويسمعون أن مصر دولة مستقلة، وهي اليوم تقف لتقول للناس على رؤوس الأشهاد في مجلس الأمن إن الاستقلال الذي ضمنته بريطانيا! ! كان استقلالا مزيفًا، لأن الجنود البريطانية كانت لا تزال تحتل بلادنا ولأن السفير البريطاني كان ينصب الحكومات المصرية ويقيلها كما يشاء وتشاء دولته المستعمرة لبلادنا. لقد ظن أولئك الرجال أن هذه سياسة وكياسة وحسن تدبير، فإذا هي غفلة وحماقة وسوء تقدير. ولولا يقظة هذا الشعب الأبي الكريم، لما استيقظ هؤلاء الزعماء البتة، ولمضوا إلى الغاية في التنازع على الحكم وشهوات الحكم وفتن الحكم، فالشعب هو الذي انتهى بنا إلى مجلس الأمن لا الزعماء ولا أولئك الساسة.

وعبرة رابعة هي أنه ينبغي لزعماء الثورة أن لا يقبلوا البتة مفاوضة الغاصب على حق من حقوق البلاد، فإن حقوق الحرية مترابطة لا ينفك بعضها من بعض، ففيم يفاوض الإنسان إنسانًا قد سلبه حقوقه؟ إنها كلمة واحدة: "هات حقى"، ولا تدع المطالبة بالحق كاملا حتى يتركه لك أو تموت دونه. ومادام الغاصب لا يستطيع أن يفني شعبًا بأسره، فالشعب هو الظافر المنصور في النهاية، مهما لقى من عذاب وتنكيل واضطهاد وبؤس ولو كان هذا من فعل مصر والسودان منذ سنة 1882 لما انقضت سنوات بعد سنة 1919 سنة الثورة، حتى كان الغاصب قد أسلم إلينا حقوقنا كاملة بلا معاهدة ولا مفاوضة. ولكن زعماء الثورة رموا بأنفسهم في المفاوضات، فكانت العاقبة أننا بقينا نفاوض بريطانيا سبعة عشر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015