وأستدبرهم بوجه، ولم أجد إلا يومئذ تلك اللذة المنعشة بالأخوة تجمع بين الرجلين على اختلاف الدار والنشأة، وخفق قلبي خفقة كأنه يقول لعلال الفاسي: مرحبًا بك من أخ جمعت بيني وبينه أخوة هذا الدين النبيل الذي جعل أهله أمة واحدة فكانت خير أمة أخرجت للناس.

ومضينا نطوف بالدار العجيبة، فكأني كنت أسمع حس أهلها وهم يتنادون، وأراهم وهم يسعون وأشهد إماءهم وعبيدهم وهم يطوفون عليهم، وأرى الضيوف وهم يتسامرون. فلما دخلت غرفة استقبال النساء، ورأيت الذوق اللطيف والنوافذ عليها المشربيات الدقيقة الصنع، والخزانات القائمة في الجدران بنقشها البديع، ورأيت "الصفَّة" التي يلمع رخامها وتتحلى بزينة من رسومها الدقيقة وأعمدتها القائمة كأنها ساق غانية راقصة، ورأيت ذلك الزجاج الملون بالألوان الهادئة الناعمة، وهذا الجو الساطع بالغنى والنعمة، الساكن بالوقار والطمأنينة، الناعم بالرقة والجمال؛ عندئذ أخذنى مثل الحلم فرأيت ربة الدار في حليها الأنيق وثيابها الموشاة، وضفائرها المرسلة، ووجه ينير في جنبات هذه القاعة بالنبل والكرم والحفاوة بضيوفه من الأصحاب والأحباب، وسمعت حديثهن المتخافت باللفظ المرقق والصوت الناعم المنغم، وانتهت إلى ضحكاتهن الحيية التي كأنها ابتسامة مشرقة من وراء نقاب. رأيت الماضي ينبعث كله بفضائله ورذائله، ورأيتنى أعيش ساعة أتنسم نسمات من حياة أجدها في دمى، كما يجدها كل مصري وعربي في دمه، ولكننا كدنا ننساها بطول الترك وقلة العمل على استحيائها واستنقاذها واستعادتها، حتى نتعلم منها كيف نكون أحرارًا في التعبير عن سر طبائعنا الكامنة في أعماق قلوبنا وضمائرنا. إن هذا الفن الذي أوحت به حضارة لها أصول لا تزال قائمة في نفوسنا، وفي تربة أرضنا، وفي جو سمائنا -ينبغي أن ينبعث جديرًا مرة أخرى بما يلائم حاجتنا، وبما يعنينا على تمييز أنفسنا بين الناس فلا ندخل في غمار حضارات الأمم التي لا يجمع بيننا وبينها وطن ولا خُلق ولا دين ولا أدب ولا جنس ولا دم ولا شيء مما يتقارب به الناس أو يختلفون، وتمنيت عندئذ أن أفيق من أحلامى فأجدنى قد رجعت إلى داري فإذا هي تنفحني

طور بواسطة نورين ميديا © 2015