بهذه النفحات التي تحيي النفس لأن فيها شيئًا من سر هذه النفس. فلما خرجنا من بيت السحيمى حقّق الله طرفًا من هذه الأمنية.

لقد حملنا صديقنا الفنان إلى داره، وهي في عمارة كسائر عمارات القاهرة في ظاهرها، وهو يسكن منها شقة كسائر الشقق التي يسكنها سائر المصريين، بيد أن المصريين يعيشون عبيدًا لهذه الهندسة الغربية الغريبة عن بلادهم، ويسكنون فيها إلى أنماط من الحياة ليست لهم وليسوا منها في شيء. أما هو فما كاد يفتح لي الباب حتى هبت تلك النفحة المسكرة من الماضي المنبعث حيًّا نابضًا كأحسن ما تنبض الحياة. لقد رفعت هذه الأبواب الحديثة الثقيلة ووضعت مكانها الستائر من النسيج العربي الشرقي بألوانه وتقاسيمه وفنه، ووضع مكان بعضها أبواب مشبكة، وأقيمت هنا وهنا المشربيات الدقيقة، وبسطت الأرض بالبُسُط العربية الرسم المصرية الصنع، وهذه الأرائك والمناضد والقناديل وكل شيء يجعل البيت عربيًا هادئًا مطمئنًّا في وسط هذه المعمعة الطاحنة الفوارة التي تسحق طبائعنا، وتمسخ قلوبنا، وتحيل أذواقنا، وتجعلنا عالة على الأمم، نأخذ منها عارية (?) لا تزيدنا حضارة بل تزيد بؤسًا وشقاء وحيرة ونفورًا وقلقًا في هذه الحياة وفي هذه الأرض، وفي هذه الطبيعة التي تكتنفنا من حولنا، وفي هذه الطبائع التي تستولي على دخائلنا وضمائرنا.

هذا بيتى! هكذا قال لي قلبي، فاطمأننت وكان الصوم والتعب قد بلغا منا جميعًا، فآوينا إلى مضاجعنا، فلما قمنا إلى إفطارنا، وأضيئت القناديل (بالكهرباء) ورأيت ظلال المشبك على الجدران وطالعتنى المشربية من ناحية البيت، رأيتنى أحيا في هذا الغموض الهادئ بقلب جديد نابض مؤمل في الحياة، مستبشر راض عنها غير يائس منها. وتمنيت لكل مصري أن يقضى في الماضي يومًا من كل أسبوع حتى يجدد حياته، وحتى يتاح لنا بذلك أن نجدد لأنفسنا فنًّا وعيشة وسيرة وحضارة ليست مسلوبة ولا منتزعة ولا مستعارة من أحد من خلق

طور بواسطة نورين ميديا © 2015