كنت كالمأخوذ لا أريد أن أفارق هذا الملك الذي أعيش في رحابه. إنها قاعة صغيرة، ولكنها قد اتسعت حتى رأيتها تشمل كل هذه الأرض المصرية لأن كل شيء فيها منتزع من طبيعة الأرض وجوّها وسمائها وأيامها ولياليها واختلاف فصولها، ومن طبائع أهلها وشمائلهم ونوازع قلوبهم ومن كل شيء يقول أنا مصري عربي. وأخيرًا فارقتها على رغم، ولم أدر حتى انتهينا أو انتهت بنا السيارة إلى قاعة أخرى أو أثر آخر بني بعد جيل من زمان هذه القاعة، فكان الفرق بينًا. فقد أخذ الضعف يغزو القوة، ولكن القوة أبت إلا أن تتبدى كما هي برغم هذه الطوارئ التي تنتابها أو تعمل فيها. فههنا أثر الضعف الإنساني إذا بدأ الإنسان يشعر بأنه غير حر وغير مريد للحرية، وأنه مروع في حياته بشيء لا يملك له دفعًا ولا ردًّا، فهو يتخاذل وكذلك يتخاذل فنه ويتخاذل بناؤه. وهو حائر لا يدرى ما يأتي وما يذر، فإذا فنه حائر لا يدرى ما يأتي وما يذر، وهو مختلط الإرادة، وإذا فنه مختلط يأخذ بأسبابها الأولى ولكنه لا يلبث أن يحيد عنها إلى شيء ليس منه ولا من خاص طبائعه. ومع كل ذلك فإن النفحة الخالدة لا تزال عالقة به تجعله قوة صريحة مصممة مريدة للبقاء.

ثم خرجنا إلى آخر أثر زرناه وهو "بيت السحيمي"، وهو بيت كامل -لا قاعة ولا جزء من بيت- وأخذنا نطوف في أرجائه ونواحيه، فهذه غرفة الضيوف، وهذا مصلى الرجال، وهذا مكان الطعام، وهذه غرفة استقبال النساء، وهذه غرف النوم، وهذا مصلى النساء، وكلها موزعة على مساحة الأرض في الطابق الأسفل والأعلى على نظام هندسي فيه شيء من التحرّر من أسر الهندسة الدقيقة، فتكاد تشعر بأن بانيه لم يكن يبالي أن يتقيد بشيء، بل يريد أن يكون حرًّا طليقا يفضى من مكان إلى مكان كما يشاء له هواه. وكنت كلما دخلت منها مكانًا أحسست بشيء فيه ينادينى، فلما دخلنا القاعة الأولى هتف بي الهاتف إلى الصلاة، فقمنا نصلى، فكأنى ما صليت في دار قط سوى هذه الدار. إن في البناء روح إسلامية عجيبة، فيه ورع وصدق ومحبة وتخفف من ثقل هذه التكاليف الداعية إلى الكدح والطمع والعدوان، وفيه ألفة لم أحس بمثلها قط، ولم أشعر إلا يومئذ أن أصدقائي الذين معي هم أصدقائي لا معارفي، ألقاهم بوجه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015