الدهر، مصنوعة منمقة، قد أجلَّها وأدقها الصَّنَع الماهر الذي لم يعبأ بالزمن كيف يمضي ويتصرم، بل كان كل همه أن يتقن الفن الجميل الثابت الذي يريك الإبداع في صورة حية باقية تشعرك بأن الحياة هي الاستمتاع بفن الحياة لا بأشياء الحياة. ومن هذا المكان كنت أرسل طرفي إلى القبة العالية التي تتوسط السقف كأنها هامة مفكرة كل أفكارها أحلام جميلة سامية لم تتدنس بالمطامع الدنية التي يكدح في سبيلها الإنسان على أديم هذه البسيطة.
وجعل صديقنا الفنان يحدثنا وهو يتدفق من نواحيه عن روعة هذا الذي نرى وعن جلاله وعظمته، وعن هذه الضخامة الهائلة في البناء، وكيف استطاع بانيها الفنان أن يحفظ النسب بين ضخامتها وبين سائر ما في القاعة كالأبواب وغيرها حتى لا يشعر الإنسان بالرهبة والمخافة والارتياع، بل يشعره بأنه مالك هذا كله والمستولى عليه والمستمتع به، فهو يروض الفخامة والضخامة حتى تكون أليفة مستأنسة محبة إلى رائيها وصاحبها، فجعل الأبواب بين بين لا تطول قامة الرجل إلا قليلا، ولم يجعلها هي أيضًا عالية ضخمة فخمة، فيحس المرء عندئذ بالقلة والذلة والغربة والوحشة في البيت الذي هو سكن النفس ومكان ارتياحها؛ وكنت أسمع هذا ونحوًا منه؛ ولكن لم يأخذني منه شيء، فإني كنت أسمع همسات من هنا وهنا ومن ثم، هي همسات الآباء والأجداد تذكرني بما أضعناه من فن نحن أنشأناه وتعهدناه وقمنا عليه وأتقنا دقيقه وجليله، ثم رحنا نستعير أشياء الناس نتشبع بها ونتصنع، على غير هدى ولا بصيرة ولا فن، وأكاد أقول ولا حياة، فنحن أحياء ولا أحياء، لأننا نستعير حياتنا ولا ننشئها إنشاء، ونتزين بزينة مسلوبة نحن فيها كالصعلوك الأشعث الأغبر في ثياب ملك. كنت أسمع حديث الأسلاف، وأسمع في صوت صديقنا الفنان وهو يشرح ويبين بكاء وحسرات وتنهدات وآلامًا كأنه وقف يؤبن أعزّ أحبابه متجلدًا خاشعًا بين أقوام لا يحسون ما يحس ولا يشعرون بما يشعر به. إنه خليق أن ييأس، ولكنه يجاهد حتى ينتزع الأمل من بين دواعي اليأس، يريد أن يستنقذ الدرة المضيئة قبل أن تلفها الأمواج الطاغية العاتية وتذهب بها إلى حيث لا رجعة.