سواه فباطلٌ وقبضُ الريح، كما قال سليمان. نظرت مصر والسودان إلى هذا الفتى الضئيل المعْرُوق وهي تبكى من فَرْطِ لهفتها وتخوُّفها ومن فرط ما كانت تشعرُ به يومئذ من العجز الَّذي استهلكها وأثقلها عن أن تكون مثله توقُّدًا ونشاطًا وقوة وحياةً، ولكنها آمنت به ورضيتْ عنه وجعلت دمعها شهادةَ الإيمان بحقّه وحقّها الَّذي أجراه الله على لسانه.

ونجمت يومئذٍ فئة من خلق الله الذين شاءَ برحمته وحكمته أن يجعلَ مصر والسودان لهم منبتًا ومَباءةٌ كما جعلها منْبتًا ومباءةً لسائر الهوامِّ وخَشَاش الأرض وهَمج الجوّ، وقامت بريطانيا تتعهَّد هذه الفئة وتغذُوها وترضعُها من دَرِّها بُغيةَ أن تشتدَّ فتكون سباعًا وجوارحَ وأعوانًا لها على الفتك بهذا البلد الأمين، وما هو إلا قليلٌ حتَّى خرجَ منها خلقٌ يعْوى في وجه الفتى وينبَحُ ويهرُّ هريرًا لا ينقطعُ، ولكن مصر والسودان أبتْ إلا فتاها فأطاعتْه وأنكرت تلك الفئة التي نبتت أبدانها على شيء غير نيلها وتربة هذا النيل.

ثم قبض الله إليه فتى مصر والسودان، فخرجت مصر والسودان في جنازته تبكي الصوت الَّذي ردَّد الكلمة الخالدة المنبعثة من سرّ أحشائها: "بلادي! بلادي! لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، خرجت مصر والسودان حتَّى سباعُ بريطانيا وعُواتها ونُبَّاحُها يبكون أيضًا، لأن في دمهم شيئًا من مصر كان يحن بهم إلى صوت بلادها ومأتمها ونواحها.

بقيت مصر تذكُر فتاها، وتسمع صدى كلماته من حيثما تلفَّتت، حتَّى جاءت الحرب العالمية الأولى وخشعتِ الأصواتُ لهدّ القنابل ودوي الرصاص، فما كاد يسكتُ ناطق الحرب حتَّى انبعثت مصر بالقوة الدافعة التي جيَّشَها في قلبها هذا الفتى الشاب، وصرخت في وجه بريطانيا الظافرة: "حقّي! حقّي! أيتها الغاصبة". لم تَهبْ بأسها ولا سطوتها ولا جبروت الظفر المسكِر الَّذي ثملت بنشوته.

ثم كان شيءٌ لا ندري كيف كان! !

كان منطق الحوادث يقضي بأن تردّد هذه الجماهير الثائرة كلمة مصر والسودان الخالدة: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، ولكنها اقتصرت يومئذ على

طور بواسطة نورين ميديا © 2015