ما يتضمن ذلك النداء الحكيم الَّذي نادى به فتى مصر فجعلت تقول: "الاستقلالُ التام"، وخرجت بريطانيا تُقتِّل بالرصاص جمهورًا ثائرًا مطالبًا بحقه مستبسلًا في سبيله، فكلما انطلقت رصاصة انطلقت معها صيحةٌ واحدة من حناجر أمة بأسرها: "الاستقلال التام"، فكأنها رأتها تغني عن كلمتها: "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء". فهما عندها كلمتان مترادفتان.

وألحّت بريطانيا في التقتيل والفتك والعُدوان والبغي، وألحت مصر والسودان في الجرأةِ على باطل بريطانيا مطالبة بحقها وهو "الاستقلال التام"، ولم يكن يدورُ بخلدها شيء إلا هذا النداءُ وحده ليلا ونهارًا وبكرة وعشية ويومًا بعد يوم، ولم يكن يجرى في وَهْم الشعب الثائر المطالب بالحق أنَّ أحدًا سوف يقول: تعالى أفاوضكِ يا بريطانيا! فيَحذر عندئذ حذره ويعود إلى ندائه الأول الَّذي هو الكلمة المستكنة المضمرة في دَمِ هذا الشعب الذكي على قلة علمه، القوي على ضعفِ حيلته.

ثم كانَ شيء لا ندري كيف كان! !

كان زعيم هذا الشعب الثائر "سعد زغلول"، وكان رجلا شيخًا، ولكن ناهيك به من شيخ، وكان خطيبًا حسبُك من خطيب، كان يسمعُ الهمهمة التي تدور في دم الشَّعب ولا تجد لها بيانًا، فيصوغ لها بيانًا من عنده ويلقى به إلى الشعب فإذا هو يسمعُ كل ما في ضميره مترجمًا في ألفاظٍ حية تتردَّد في أذنيه. وفُتِن الشعب بسعدٍ، بلسانه الَّذي ينطقُ بأسراره التي تتحيَّر في دمه ولا يعرفُ كيف يبينُ عنها، وأسلم القياد لرجل يهديه ويرشدهُ ويعبِّر عنه، ويلطم بشيخوخته الوقورة الصاحية شبابَ بريطانيا الظافرة الطائشة السَّكرى براحِ النصر.

ثم كان شيء الله يعلم كيف كان! !

فإذا هذا الشعب المأخوذ بسعد، الفائر بالثورة في طلب حقه المتَهَجّم على بريطانية العاتية، المائج من منبع النيل إلى مصبه يطلبُ الحرية من قيوده وآصاره (?) فتتلقَّاه أسنّة الرماح البريطانية ويتخطّف أرواحه رصاصُ الوحوش ذاتُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015