"التذوق المحض والإحساس المجرد"، كما قلت آنفا، وأن هذا "التذوق" يومئذ كان تذوقا ساذجا بلا منهج، كالذي هو ناشب في الألسنة وأقلام الكتاب المحدثين .. وأن ثانيهما عليه سمة واضحة تدل على أنه نعت من أثر "التذوق" أيضًا، ولكنه تذوق له معنى آخر غير المعنى المألوف، وأنه "تذوق" قائم على منهج مرسوم، له أسلوب آخر في استبطان الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني، ثم في استدراجها ومماسحتها وملاطفتها ومداورتها حتى تبوح لنا بدخائل منشئيها ومخبآت صدورهم، بل حتى تكشف اللثام عن صورهم وملامحهم ومعارف وجوههم سافرة بلا نقاب. أظنه فرقا ظاهرا بين نعتين، في زمنين متباعدين، لكل زمن منهما طبيعة تميزه عن الزمن الآخر. أليس كذلك؟

ولمجرد الحذر مما يخاف على الحديث إذا هو اختلف سياقه وتباعدت أطرافه، فيصبح عندئذ مهددا بأن تخفي أسباب التشابك بين معانيه، أو متوعدا بأن تتهتك أو تسقط بعض الروابط الجامعة بين أوصاله فيتفكك أو ينتشر، أحب أن أختصر لك مجمل حديثي في نظام واحد، متدانى الأطراف محذوف الفضول. فهذه القوة المركبة الكامنة في بناء الإنسان، والتي سميتها "القدرة على البيان"، مندمجة اندماجا لا انفصام له في حلقة مفرغة مكونة منها ومن العقل والنفس والقلب. ولها في هذه الحلقة عملان متداخلان لا ينفصلان هما: "الإبانة" و"الاستبانة" و"الإبانة" هي قدرتها على إنشاء "الكلام" وتركيبه، بليغا كان أو غير بليغ. و"الاستبانة" هي قدرتها على تفلية "الكلام" وجسه والتدسس في طواياه، وحين تتلقاه من خارج، بليغا كان "الكلام" أو غير بليغ. وهذه "الاستبانة" بجملتها هي التي سميتها "التذوق".

وكلامى، خفت، يوشك أن يوهم أن "التذوق" عمل آخر مستقل من أعمال هذه القدوة، مقصور على استبانة دفائن الكلام الدالة على آثار العواطف والنوازع والطبائع الناشبة فيه، وعلى التقاط الملامح العالقة التي يمكن بالملاطفة أن تحسر اللثام عن بعض معارف ضمير منشئها وصورته وهيئته، وخفت أيضًا أن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015