استطاع بتحليل الألفاظ والجمل والتراكيب، أن يجعلها تكشف اللثام عن أسرار المعاني القائمة في ضمير منشئها، فأزال إبهام "البلاغة"، ظننت أنه من المستطاع أيضًا بضروب أخرى من تحليل الألفاظ والجمل والتراكيب أن أصل إلى شيء يهدينى إلى كشف اللثام عن أسرار العواطف الكامنة التي كانت في ضمير منشئها، فأزيل إبهام "التذوق". وإذا كان تحليله قد أفضى به أن يجعل نظم "الكلام" دالا على صور قائمة في نفس صاحبها، فعسى أن أجد أيضًا في ضرب أو ضروب من التحليل، ما يفضى بى إلى أن أجعل "الكلام" ونظمه جميعًا دالا على صورة صاحبها نفسه. والتبست على الطرق مرة، واستبانت مرة، ثم بدأت بعد زمن تتضح لي بعض المعالم. وكان مما أعاننى على وضوح هذه المعالم، ما كنت دخلت فيه من قبل، من جس الكلمات والألفاظ والتراكيب جسا متتابعا، إلى آخر ما وصفته آنفا. وعلى الأيام بزغ لي بعض الضياء، وأنارت بعض الشعل، ووضعت لنفسي منهجا، انتهيت إلى أن سميته "التذوق"، كما حدثتك آنفا، وجعلت أمارسه في جميع ما أقرأ من الكلام لا في الشعر وحده والأمر يطول، ولكن هذه خلاصته أكتبها على مشقة.

ولم أجاوز حد تطبيق منهجى هذا في القليل الذي كتبته، مما نشرته وعما سوف أنشره بعد قليل إن شاء الله، ولكنه تطبيق لا أكثر ولا أقل. وما دمنا في حيز التاريخ فسأقفك على كلامين، أحدهما يصف الشعر الجاهلي في أول أمرى حين قرأت كما حدثتك، والآخر يصف الشعر الجاهلي بعد ذلك بزمان طويل، لما كتبت مقدمة كتابى المتنبي 1: 14) في سنة 1977، وضعت قديم إحساسى بالشعر الجاهلي في سنة 1927 وما قبلها فقلت:

1 - "وجدت يومئذ في الشعر الجاهلي ترجيعا خفيا غامضا كأنه حفيف نسيم، تسمع حسه وهو يتخلل أعواد نبت غميم متكاثف = أو رنين صوت شجى ينتهي إليك من بعيد في سكون ليل داج، وأنت محفوف بفضاء متباعد الأطراف وكان هذا الترجيح الذي آنسته مشتركا بين شعراء الجاهلية الذين قرأت شعرهم، ثم يمتاز شاعر "من شاعر" بجرس ونغمة وشمائل تتهادى فيها ألفاظه، ثم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015