وهذا الذي استولى عليّ وخامرنى في شأن "التذوق"، رماني بغتة في حومة الارتياب وفوجئت بلفظ آخر هو لفظ "البلاغة" الذي يدور عليه القول في "إعجاز القرآن"، والذي يوصف به الكلام فيقال: "كلام بليغ"، فإذا هو أيضًا عندي الآن لفظ مبهم شديد الإبهام ونفرت جهنم، بين شدقيها تريد أن تبتلعنى. ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، بيد أنى كلما أعدت النظر، وجدت "الذوق" حقيقة كامنة في نفسي، ووجدت "البلاغة" أيضًا حقيقة ظاهرة تفرض سلطانها على نفسي، ولكني كلما حاولت أن أعرف لهما بيانا أو حدا، بلغ في الاعياء كل مبلغ. وبدا لي يومئذ أن أعيد قراءة عبد القاهر الجرجانى فيّ كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز". أكببت على قراءة الكتابين، وبغتة رأيت أو تبيَّنتُ أن عبد القاهر قد وقع في نفس ما وقعت فيه. رأيته قد وقع في الحيرة من لفظ "البلاغة"، ورآه لفظا مبهما شكلا ليس له بيان ولا حد يعين على تصور "البلاغة" ما هي؟ فيومئذ انبعث انبعاثا ليكشف عن إبهام "البلاغة"، فألف كتابه "أسرار البلاغة"، عمد فيه إلى تحليل الألفاظ المتصرفة بأمر المعاني، مبينا عن وجوه حسنها وقبحها، وخطئها وصوابها، وسموها وسقوطها غير مقطوعة عن أصلها في الكلام المؤلف المركب. ثم ألف أيضًا كتابه "دلائل الإعجاز"، عمد فيه إلى تحليل الجمل أي الكلام المركب الذي يحتمل تركيبه آلافا من الوجوه، فكان كتاباه هذان، أول كتابين في "تحليل اللغة" بلغ فيهما غاية قَصَّر عنها كل من جاء بعده، وهذان الكتابان هما أصل "علم البلاغة"، كما سميناه (وسترى ذلك مبينا في كتابى: مداخل إعجاز القرآن) (?).

كان فضل عبد القاهر يومئذ عليَّ فضلا عظيما، لأننى حين فهمت حقيقة الدواعى التي حملته على وضع كتابيه الجليلين، أدركت من فورى أن مسألة "التذوق"، مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة "البلاغة" في الأمرين جميعًا، في إبهامهما، وفي أنهما حقيقتان متعلقتان بمدارك الفطرة في الإنسان. ولما رأيته قد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015