طبقت في هذا الكتاب منهجا في "تذوق الشعر"، يشبه أن يكون قريبا من شيء سمعه قديما مني، ثم ذهل عنه في غمرة الأحداث والأزمان. ويومئذ بدا له أن يفعل ما فعل، مما قصصته أيضًا في مقدمة كتابى (المتنبي 1: 147 - 158)، وفيه قصة "السطو" كاملة على اختصارها، فإن شئت فأعد قراءتها، فعسى أن تجد فيها شيئًا يزداد وضوحًا بعد هذا الحديث. (انظر أيضًا المقالات في الجزء الثاني من ("المتنبى").

فارقت الجامعة سنة 1928، وانطوى الماضي كله بما فيه، وبمن فيه أيضًا. ذهبت بعيدا وحيدًا لا رفيق لي غير "قضية الشعر الجاهلي"، كما شرحتها لك آنفًا، والتي لم تلبث أن أنشأت لنفسها صاحبة لا تفارقها، هي إعادة النظر في شأن "إعجاز القرآن". كان لفظ "التذوق" فاشيا في الألسنة والأقلام. لا يكاد أحدنا يشك في أنه معنى مفهوم واضح مفروغ منه. ومع الأيام الطوال الموحشة، وشيئا فشيئا، بدأ ما كنت أجده في نفسي عند قراءة الشعر الجاهلي وغير الشعر الجاهلي، والذي سميته لك آنفا "ما وراء التذوق"، والذي كان ما أقوله عنه غير مبين ولا واضح، والذي أنكره على أساتذتى من قبل، ورفضه الدكتور طه رفضا كاملا -أخذ هذا يدفعنى إلى سلوك طريق آخر، يعتمد على جس الكلمات والألفاظ والتراكيب جسا متتابعا بالتأمل، ثم على الرجوع إلى أصولها في المعاجم مع التدقيق في مكنون معانيها المختلفة، ثم في دلالاتها وظلال دلالاتها عند كل شاعر أو كاتب، ثم دخلت في مقارنات كثيرة بين المتشابهات والمتباينات، وشيء كثير بعد ذلك كان يفرض نفسه على طريقي فرضا. يومئذ بدأ لفظ "التذوق"، بمفهومه الذي عهدته، بدأ يتزعزع من حيث نشب من نفسي ومن لسانى، ورأيته لفظا مبهما مجمل الدلالة، لفظ غامض مظلم، مضلل بتعدد صوره واختلافها وتنوعها، ولكني لم أستطع أن أطرق بعيدا، لأن الذي أجده في نفسي مما سميته "ما وراء التذوق"، كان لا يزال صاحب سلطان عليّ مطاع، فكان يقبضنى عن الطيش والمجازفة بطرحه، فبينهما صلة خفية أحسها، وإن كنت غير قادر على تبينها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015