وفوض إليهم الحكم على أنه كلام مفارق لكلام البشر بهذا اللفظ العربي المبين، وإن هذه المفارقة التي فوض إليهم الحكم بها ظاهرة في لفظ القرآن، وجعل هذه المفارقة هي القاضية عليه بأن يقولوا أنه (كلام الله سبحانه) لا كلام نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهي القاضية عليهم بأن يعلموا أنه معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يؤمن أحدهم حتى يقر بأن القرآن هو كلام الله المنزل من عنده وأن مبلغ هذا القرآن نبى مرسل أرسله إليهم بلسانهم وجعل هذا شرط الإيمان بالله وبرسوله ولم يجعل سائر معجزاته التي أوتيها كما أوتيها الأنبياء من قبله شرطا للتسليم بأن هذا الرجل نبى مرسل، - صلى الله عليه وسلم -.
والشعر الذي جعل الشافعي البصر به شرطا أيضا للناظر والمتكلم في كتاب الله وسنة رسوله، هو شعر هذه الجاهلية التي اختار الله من رجالها صفوة آمنت لتحمل أمانة هذا الدين بلسانه العربي المبين لا على معنى المعرفة به بل على معنى البصر النافذ في إدراك وجوه الشعر المختلفة، لأن الشعر هو محصلة البيان الإنساني الذي مَنَّ الله به على الإنسان فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} فجمع سبحانه (القرآن) و (البيان) في سياق واحد لأن بيان القرآن هو المعجز لبيان الإنسان، ومجرد التحدى ببيان القرآن، دال على أن هذه الجاهلية التي أظلها الإسلام قد بلغت أقصى حدود القدرة الإنسانية على البيان، ولذلك فوض الله إليها أن تكون هي الحكم على أن بيان القرآن مفارق لبيان البشر، وأنه معجز للخلق جميعا على اختلاف ألسنتهم واختلاف القدر المكنونة في طبائعهم في الإبانة عن أنفسهم، في كل زمان ومكان.
وإذن، فهذه اللغة الشريفة النبيلة التي كرمها الله بكلامه المنزل من فوق سبعة أرقعة هي بلا ريب حاملة ديننا، وحاملة ميراثنا من ثقافة الأمة الإسلامية وحضارتها على امتداد أربعة عشر قرنا، وهي اللغة التي ينبغي أن نجدد حياتها، ونحييها على ألسنتنا وأقلامنا بلا هوادة في ذلك ونمحو بها أمية الشعوب العربية والإسلامية، ونرفع بها غشاء الجهل عن جماهير الأمة المسلمة، لكي نستطيع أن نصفي بنقائها وصفائها ميراث ثقافتنا السالفة وحضارتنا الغابرة، ولكي نستطيع أن نجدد ثقافتنا مرة أخرى في زماننا، حتى نجتاز المرحلة الصعبة المرهقة العنيفة التي ينبغي