النَّوَوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَاعْتَرَضَ (فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ) مُثَنَّى صَاعٍ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ اتِّفَاقًا مِكْيَالٌ يَسَعُ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ، وَلَكِنَّ الْمُدَّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَقِيلَ: رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَقِيلَ رِطْلَانِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مِعْيَارُهُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفِّ الرَّجُلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ وَلَا صَغِيرِهِمَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَكَانٍ يُوجَدُ فِيهِ صَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: وَجَرَّبْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ صَحِيحًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فَأَعْطَاهُ، وَلَا مُنَافَاةَ إِذِ الْآمِرُ بِالْإِعْطَاءِ يُسَمَّى مُعْطِيًا، قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى فَأَمَرَ بِإِعْطَائِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ: أَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ أَوْ مُدَّيْنِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الشَّكُّ مِنْ شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ: فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَشُكَّ، وَأَفَادَ تَعْيِينَ مَا فِي الصَّاعِ، قُلْتُ: فَقَوْلُهُ (مِنْ طَعَامٍ) يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِتَمْرٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَسْبُ الْحَجَّامِ حَرَامًا لَمَا أَمَرَ لَهُ بِالْإِعْطَاءِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ (وَكَلَّمَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَهْلَهُ) أَيْ: مَوَالِيَهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: «مَوَالِيهِ» بَنُو حَارِثَةَ عَلَى الصَّحِيحِ وَمَوْلَاهُ مِنْهُمْ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْمَوَالِيَ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا رَجُلًا وَيَكُونُ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ وَاحِدًا، قُلْتُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ، وَالْمُرَادُ: مَوْلَاهُ وَأَتْبَاعُهُ، قَالَ: وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ فَهُوَ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو هِنْدٍ (فَوَضَعُوا) أَيْ: مَوَالِيهِ عَنْهُ (مِنْ خَرَاجِهِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ مَا يُوَظَّفُ عَلَى الْمَمْلُوكِ كُلَّ يَوْمٍ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مِقْدَارِهِ (وَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ أَوْ إِنَّ مِنْ أَمْثَلِ دَوَائِكُمْ) أَيْ: مِنْ أَفْضَلِ مَا تَتَدَاوَوْنَ بِهِ (الْحِجَامَةُ) وَفِي الْعِبَارَةِ الْأُولَى مُبَالَغَةٌ لَيْسَتْ فِي الثَّانِيَةِ، قَالَ مِيرَكُ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَأَظُنُّهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ (إِنَّ مِنْ أَمْثَلِ مَا
تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ: عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ (خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ) .
وَمِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرٍ: عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ أَفْضَلَ أَيْ: مِنْ غَيْرِ شَكٍّ قَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ: الْخِطَابُ بِذَلِكَ لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ؛ لِأَنَّ دِمَاءَهُمْ رَقِيقَةٌ وَتَمِيلُ إِلَى ظَاهِرِ الْأَبْدَانِ بِجَذْبِ الْحَرَارَةِ الْخَارِجَةِ مِنْهَا إِلَى سَطْحِ الْبَدَنِ.
وَفَصَّلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هُنَا تَفْصِيلًا حَسَنًا فَقَالَ: إِنَّمَا وَاظَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الِاحْتِجَامِ وَأَمَرَ بِهِ وَبَيَّنَ فَضْلَهُ، وَلَمْ يَفْتَصِدْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، مَعَ أَنَّ الْفَصْدَ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَرَدِّ الصِّحَّةِ الْمَفْقُودَةِ؛ لِأَنَّ مِزَاجَ بَلَدِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْبِلَادَ الْحَارَّةَ تُغَيِّرُ الْأَمْزِجَةَ تَغَيُّرًا عَجِيبًا كَبِلَادِ الزِّنْجِ وَالْحَبَشَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْبِلَادَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ فَلِهَذَا تُسَخِّنُ الْمِزَاجَ وَتُجَفِّفُهُ وَتَحْرِقُ ظَاهِرَ الْبَدَنِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ تَجْعَلُ أَلْوَانَ أَهْلِهَا سُودًا وَشُعُورَهُمْ إِلَى الْجُعُودَةِ، وَتُدَقِّقُ أَسَافِلَ أَبْدَانِهِمْ وَتُطِيلُ وُجُوهَهُمْ وَتُكَبِّرُ آنَافَهُمْ وَتُجْحِظُ أَعْيُنَهُمْ، جُحُوظُ الْعَيْنِ: خُرُوجُ الْمُقْلَةِ أَوْ عِظَمُهَا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَتَخْرُجُ مِنْهُ مِزَاجُ أَدْمِغَتِهِمْ عَنِ الِاعْتِدَالِ فَيَظْهَرُ أَفْعَالُ النَّفْسِ النَّاطِفَةِ فِيهِمْ مِنَ الْفَرَحِ وَالطَّرَبِ وَصَفَاءِ الْأَصْوَاتِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمُ الْبَلَادَةُ لِفَسَادِ أَدْمِغَتِهِمْ، وَفِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الْبِلَادِ فِي الْمِزَاجِ بِلَادُ التُّرْكِ فَإِنَّهَا بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ تُبَرِّدُ الْمِزَاجَ وَتُرَطِّبُهُ وَتَجْعَلُ ظَاهِرَ الْبَدَنِ حَارًّا شَدِيدَ الِالْتِهَابِ؛ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ تَمِيلُ مِنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ إِلَى الْبَاطِنِ هَرَبًا مِنْ ضِدِّهَا الَّتِي هِيَ بُرُودَةُ الْهَوَاءِ كَالْحَالِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ، فَإِنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ تَمِيلُ إِلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ لِبُرُودَةِ الْهَوَاءِ فَيَجُودُ بِذَلِكَ الْهَضْمُ وَيَقِلُّ الْأَمْرَاضُ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قَالَ بُقْرَاطُ: إِنَّ الْأَجْوَافَ فِي الشِّتَاءِ أَسْخَنُ مَا يَكُونُ بِالطَّبْعِ، وَالنَّوْمُ أَطْوَلُ مَا يَكُونُ، وَقَالَ أَيْضًا أَسْهَلُ مَا يَكُونُ إِحْمَالُ الطَّعَامِ عَلَى الْأَبْدَانِ فِي الشِّتَاءِ فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَ الطَّعَامُ الْغَلِيظُ يَسْهُلُ انْهِضَامُهُ كَالْهَرَايِسِ