وَاللُّحُومِ الْغِلَاظِ وَالْخُبْزِ الْفَطِيرِ، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا فِي الصَّيْفِ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَتْ فِي الشِّتَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَارَّ الْغَرِيزِيَّ الْمُصَحِّحَ لِلْغِذَاءِ مَائِلٌ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِالْمُجَانَسَةِ إِلَى الْجِنْسِ، فَلِذَلِكَ يَفْسُدُ الْهَضْمُ وَيَكْثُرُ الْأَمْرَاضُ وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِطْنَابِ أَنَّ بِلَادَ الْحِجَازِ لَمَّا كَانَتْ حَارَّةً يَابِسَةً، فَالْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ بِالضَّرُورَةِ تَمِيلُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِالْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَ مِزَاجِهَا وَمِزَاجِ الْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِالْأَبْدَانِ فَيَبْرُدُ بَوَاطِنُ الْأَبْدَانِ وَبِهَذَا السَّبَبِ يُدْمِنُونَ أَكْلَ الْعَسَلِ وَالتَّمْرِ وَاللُّحُومِ فِي حَرَارَةِ الْقَيْظِ، وَلَا يَضُرُّهُمْ لِبَرْدِ أَجْوَافِهِمْ وَكَثْرَةِ التَّحَلُّلِ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَرَارَةُ مَائِلَةً مِنْ بَاطِنِ الْبَدَنِ إِلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَحْتَمِلِ الْبَدَنُ الْفَصْدَ؛ لِأَنَّ الْفَصْدَ إِنَّمَا يَجْذِبُ الدَّمَ مِنْ أَعْمَاقِ الْعُرُوقِ وَبَوَاطِنِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنَّمَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى الِاحْتِجَامِ؛ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ تَجْتَذِبُ الدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ فَحَسْبُ، فَافْهَمْ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ الَّتِي أَشْرَفَ عَلَيْهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنُورِ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: الْحِجَامَةُ تُنَقِّي سَطْحَ الْبَدَنِ أَكْثَرَ مِنَ الْفَصْدِ، وَالْفَصْدُ لِأَعْمَاقِ الْبَدَنِ، وَالْحِجَامَةُ لِلصِّبْيَانِ وَالْبِلَادِ الْحَارَّةِ أَوْلَى مِنَ الْفَصْدِ وَآمَنُ غَائِلَةً، وَقَدْ تُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَلِهَذَا وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذِكْرِهَا دُونَ الْفَصْدِ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ غَالِبًا مَا كَانَتْ تَعْرِفُ إِلَّا الْحِجَامَةَ، وَقَالَ
صَاحِبُ الْهُدَى: التَّحْقِيقُ فِي أَمْرِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمِزَاجِ، وَالْحِجَامَةُ فِي الْأَزْمَانِ الْحَارَّةِ وَالْأَمَاكِنِ الْحَارَّةِ وَالْأَبْدَانِ الْحَارَّةِ الَّتِي دَمُ أَصْحَابِهَا فِي غَايَةِ النُّضْجِ أَنْفَعُ وَالْفَصْدُ بِالْعَكْسِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْحِجَامَةُ أَنْفَعَ لِلصِّبْيَانِ وَلِمَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْفَصْدِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَيْضًا أَنَّ الْخِطَابَ لِغَيْرِ الشُّيُوخِ لِقِلَّةِ الْحَرَارَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَحْتَجِمْ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ فِي انْتِقَاصٍ مِنْ عُمُرِهِ وَانْحِلَالٍ مِنْ قُوَى جَسَدِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَهُ وَهْنًا بِإِخْرَاجِ الدَّمِ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْتَقِرْ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَدَّ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ سِينَا فِي أُرْجُوزَتِهِ: (وَمَنْ تَكُنْ عَادَتُهُ الْفَصَادَهْ فَلَا يُمْكِنُ قَطْعُ هَذِهِ الْعَادَهْ)
ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُقَلِّلُ ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ) بِالْجِيمِ وَاسْمُهُ مَيْسَرَةُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَنَّهُ رَوَى عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ اتِّفَاقًا (عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَأَمَرَنِي) أَيْ: بِإِعْطَاءِ أُجْرَتِهِ (فَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ أَجْرَهُ) وَهُوَ الصَّاعَانِ السَّابِقَانِ فَأَفَادَ الْحَدِيثُ تَعْيِينَ مَنْ بَاشَرَ وَجَمَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَيْنَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ وَبَيْنَ إِعْطَاءِ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ بِأَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ مَا إِذَا كَانَ الْأُجْرَةُ عَلَى مَعْلُومٍ وَمَحَلُّ الزَّجْرِ إِذَا كَانَتْ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَكَرِهَ لِلْحُرِّ الِاحْتِرَافَ بِهَا وَحَرُمَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا وَجَوَّزَ لَهُ الْإِنْفَاقَ عَلَى الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ، وَأَبَاحَ لِلْعَبْدِ مُطْلَقًا، وَعُمْدَتُهُ حَدِيثُ مُحَيِّصَةَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَسْبِ الْحِجَامَةِ فَنَهَاهُ، وَذَكَرَ لَهُ الْحَاجَةَ فَقَالَ: اعْلِفْ نَوَاضِحَكَ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ أَجْرَ الْحَجَّامِ إِنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ إِعَانَتُهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا.
(حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ مَنْسُوبٌ إِلَى شَعْبٍ بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ قَالَ: أَدْرَكْتُ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرَ يَقُولُونَ: عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَهُوَ يُحَدِّثُ بِالْمَغَازِي فَقَالَ شَهِدْتُ الْقَوْمَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لِأَبِي بَكْرٍ الْهَمْدَانِيِّ: الْزَمِ الشَّعْبِيَّ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُسْتَفْتَى وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ بِالْكُوفَةِ وَالْحَسَنُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ بِالْمَدِينَةِ، وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَالْحَسَنُ بِالْبَصْرَةِ، وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ فِي الْأَخْدَعَيْنِ) وَهُمَا عِرْقَانِ فِي جَانِبَيِ الْعُنُقِ (وَبَيْنَ الْكَتِفَيْنِ) وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَقَالَ مِيرَكُ: هُوَ