الْمَحَاسِنُ فَجَمِيعُ أُمُورِهِ مُنْتَظِمَةٌ وَأَحْوَالُهُ مُلْتَئِمَةٌ وَمَآلُ اعْتِدَالِ الْأَمْرِ وَعَدَمِ اخْتِلَافِهِ وَاحِدٌ فَكَانَ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يَغْفُلُ بِسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ هُوَ الْمَضْبُوطُ فِي الْأُصُولِ وَالْمَعْنَى لَا يَغْفُلُ عَنْ مَصَالِحِهِمْ مِنْ تَذْكِيرِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ وَإِمْدَادِهِمْ (مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلُوا) أَيْ: عَنْهَا بِنَاءً عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُتَابَعَةِ، وَإِنَّ النَّاسَ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ وَإِنَّ الْمُرِيدِينَ عَلَى دَأْبِ شُيُوخِهِمْ وَالتَّلَامِيذَ عَلَى طَرِيقَةِ أُسْتَاذِيهِمْ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يَغْفُلُوا عَنِ الِاسْتِفَادَةِ فَيَقَعُوا فِي عَدَمِ الِاسْتِقَامَةِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْفَاءِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى وَزْنِ يَعْلَمُ وَمَخَافَةَ أَنْ يَفْعَلُوا كَذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَفْعَلُ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ مَخَافَةَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ (وَيَمَلُّوا) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ الْمَلَالَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا) .

وَفِي نُسْخَةٍ (أَوْ يَمَلُّوا) بِكَلِمَةِ «أَوْ» لِلتَّنْوِيعِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لِلشَّكِّ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِثُبُوتِ أَصْلِ الْفِعْلِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَفِي نُسْخَةٍ (أَوْ يَمِيلُوا) مِنَ الْمَيْلِ أَيْ: يَمِيلُوا إِلَى الدَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُهُ نَفْيُ الْغَفْلَةِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ جَعَلَهُ أَصْلًا وَالْبَاقِيَ نَسْخًا (لِكُلِّ حَالٍ) أَيْ: مِنْ أَحْوَالِهِ وَغَيْرِهِ (عِنْدَهُ عَتَادٌ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الْعُدَّةُ وَالتَّأَهُّبُ مِمَّا يَصْلُحُ لِكُلِّ مَا يَقَعُ يَعْنِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَشْكَالَهَا وَنَظَائِرَهَا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعَدَّ لِكُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَدَلِيلًا مِنْ أَدِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُسْتَعِدًّا لِجَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ (لَا يُقَصِّرُ) مِنَ التَّقْصِيرِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ الصَّادِ مِنَ الْقُصُورِ، وَهُوَ الْعَجْزُ وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُ تَقْصِيرٌ عَمْدًا وَلَا قُصُورٌ خَطَأً (عَنِ الْحَقِّ) أَيْ: عَنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ لِصَاحِبِهِ إِنْ عَلِمَ مِنْهُ شُحًّا فِيهِ وَلَا يُعْطِي فِيهِ

رُخْصَةً وَلَا تَهَاوُنًا وَزَعَمَ أَنْ لَا يُقَصِّرَ إِذَا كَانَ مُخَفَّفًا صِفَةَ (عَتَادٌ) لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَنْبُو عَنْهُ بِكُلِّ وَجْهِهِ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ عِنْدَ أَهْلِهِ (وَلَا يُجَاوِزُهُ) أَيْ: لَا يُجَاوِزُ الْحَقَّ وَلَا يَتَعَدَّى عَنْهُ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ إِفْرَاطٌ وَلَا تَفْرِيطٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ لَا مَجَالَ هُنَا لِذِكْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا هُوَ حَدُّ الِاعْتِدَالِ وَعَدَمُ الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمَقَالِ، وَلِذَا يُعَاقَبُ اثْنَانِ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ زَادَ أَحَدُهُمَا وَاحِدًا مِنَ الْأَعْدَادِ وَالْآخَرُ نَقَصَ وَاحِدًا مِنْهَا عَنِ الْمُرَادِ وَيُعَاقَبُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ غَضَبَكَ وَحُكْمَكَ وَتَدْبِيرَكَ أَزْيَدُ مِنَّا وَالثَّانِي بِأَنَّ عِلْمَكَ وَحِلْمَكَ وَرَحْمَتَكَ أَكْثَرُ مِنَّا (الَّذِينَ يَلُونَهُ) مِنَ الْوَلْيِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ أَيِ الْمُقَرَّبُونَ لَهُ (مِنَ النَّاسِ خِيَارُهُمْ) أَيْ: خِيَارُ النَّاسِ، وَهُوَ خَبَرُ الْمَوْصُولِ وَمِنْ بَيَانٌ لَهُ (أَفْضَلُهُمْ عِنْدَهُ أَعَمُّهُمْ نَصِيحَةً) أَيْ: لِلْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ (أَلَا إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ) وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا (وَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً) أَيْ: مَرْتَبَةً (أَحْسَنُهُمْ مُوَاسَاةً) أَيْ: بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (وَمُوَازَرَةٌ) أَيْ: مُعَاوَنَةً فِي مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015