لِأَجْسَادِهِمْ وَعَنْ بِمَعْنَى بَعْدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ وَقَالَ مِيرَكُ: الْأَصْلُ فِي الذَّوَّاقِ الطَّعَامُ إِلَّا أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ كُلَّهُمْ حَمَلُوهُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ قَدْ يُسْتَعَارُ كَمَا فِي الْقُرْآنِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أَيْ: لَا يَقُومُونَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَّا وَقَدِ اسْتَفَادُوا عِلْمًا جَزِيلًا وَخَيْرًا كَثِيرًا وَيُلَائِمُهُ قَوْلُهُ (وَيَخْرُجُونَ) أَيْ: مِنْ عِنْدِهِ (أَدِلَّةً) جَمْعُ
دَلِيلٍ أَيْ هُدَاةً لِلنَّاسِ كَمَا وَرَدَ (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ) قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَسْمُوعَةُ الْمُصَحَّحَةُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا قَدْ عَلِمُوهُ فَيَدُلُّونَ النَّاسَ وَيُنْبِئُونَهُمْ بِهِ، وَهُوَ جَمْعُ دَلِيلٍ مِثْلُ شَحِيحٍ وَأَشِحَّةٍ وَسَرِيرٍ وَأَسِرَّةٍ، وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى لِلْعَلَّامَةِ سَعْدِ الدِّينِ الْكَازَرُونِيِّ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: يَخْرُجُونَ مُتَّعِظِينَ بِمَا وُعِظُوا مُتَوَاضِعِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ حَسَنٌ إِنْ سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَةُ انْتَهَى.
وَأَقُولُ: فَعَلَى هَذَا لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ (يَعْنِي عَلَى الْخَيْرِ) إِلَّا أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى: كَائِنِينَ عَلَى الْخَيْرِ، قُلْتُ: الْأَظْهَرُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى بِمَعْنَى مَعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ أَوْ إِرَادَةُ الْخَيْرِ فَيَقْصِدُهُ لِأَهْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُهُمْ زِيَادَةُ الْعِلْمِ إِلَّا تَوَاضُعًا وَاسْتِصْغَارًا لَا عُتُوًّا وَاسْتِكْبَارًا كَمَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - مَرْفُوعًا (مَنِ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ فِي الدُّنْيَا زُهْدًا لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا بُعْدًا) (قَالَ) أَيِ: الْحُسَيْنُ (فَسَأَلْتُهُ) أَيْ: أَبِي (عَنْ مَخْرَجِهِ) أَيْ: عَنْ أَطْوَارِ زَمَانِ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِيهِ، قَالَ:) أَيْ: عَلِيٌّ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْزُنُ) بِضَمِّ الزَّايِ وَكَسْرِهَا أَيْ: يَحْفَظُ (لِسَانَهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ: يَهُمُّهُ وَيَنْفَعُهُ (وَيُؤَلِّفُهُمْ) عَطْفٌ عَلَى يَعْنِيهِ أَوْ عَلَى يَخْزُنُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهُ وَاوًا بِتَشْدِيدِ اللَّامِ مِنَ الْأُلْفَةِ أَيْ: يَجْعَلُهُمْ رُحَمَاءَ وَيَجْمَعُهُمْ كَأَنَّهُمْ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ مِنْ أَلَّفْتُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَأْلِيفًا وَيُقَالُ أَيْضًا: أَلَّفَ مُؤَالَفَةً أَيْ: مُكَمَّلَةً أَيْ: وَيُكَمِّلُهُمْ فِي مَرْتَبَةِ الْأُلْفَةِ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ أَيْ: يُعْطِيهِمُ الْوَفَاءَ مَعَ عَدَمِ مُلَائَمَتِهِ لِقَوْلِهِ (وَلَا يُنَفِّرُهُمْ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: لَا يُلْقِيهِمْ فِي فِعْلِهِ، وَقَوْلُهُ بِمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى النُّفُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِ: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ وَقَدْ وَرَدَ بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي قَوْلِهِ، وَالْمَعْنَى لَا يُفَضِّلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَسَبِ مَعَ أَنَّهُ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ (وَيُكْرِمُ) مِنَ الْإِكْرَامِ أَيْ: يُعَظِّمُ (كَرِيمَ كُلِّ قَوْمٍ) أَيْ: بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا (إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ، وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ دِينًا وَنَسَبًا وَحَسَبًا) فَالْمَعْنَى كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: يَجْعَلُهُمْ أَلِفِينَ مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِمْ أَوْ يُؤَلِّفُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْنَهُمْ تَبَاغُضٌ بِوَجْهِهِ وَمِنْ ثَمَّةَ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وَمَا قِيلَ أَنَّ مَعْنَى يُؤَلِّفُهُمْ يُعْطِيهِمُ الْوَفَاءَ فَهُوَ لَا يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَلَا الْمُرَادَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا كَانَ يَتَأَلَّفُ بِالْمَالِ جُفَاةَ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ تَمَكُّنَهُ فِي غَيْرِهِمْ وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
(وَيُوَلِّيهِ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ: يَجْعَلُ كَرِيمَهُمْ وَالِيًا (عَلَيْهِمْ) وَهَذَا مِنْ تَمَامِ حُسْنِ نَظَرِهِ وَعَظِيمِ تَدْبِيرِهِ فَإِنَّ الْقَوْمَ طَوْعٌ لِكَبِيرِهِمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْكَرَمِ الْمُقْتَضِي لِأَنْ يَتَقَدَّمَ (وَيَحْذَرُ النَّاسَ) بِفَتْحِ الذَّالِ مِنَ الْحَذَرِ بِمَعْنَى الِاحْتِرَاسِ وَأَبْعَدَ الْحَنَفِيُّ فِي جَعْلِهِ بِمَعْنَى الِاتِّقَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ التَّحْذِيرِ أَيْ: يُخَوِّفُهُمْ قَالَ مِيرَكُ: أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَلَى فَتْحِ الْيَاءِ وَالذَّالِ وَتَخْفِيفِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ (وَيَحْتَرِسُ مِنْهُمْ) أَيْ: يَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنْ أَذَاهُمْ أَوْ مِنْ نُفُورِهِمْ وَإِنْ رُوِيَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ وَكَسْرِهَا فَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا لِمَفْعُولَيْنِ، وَالْمَرْجُوُّ أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ؛ لِأَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ كُلِّ لَفْظٍ عَلَى حِدَةٍ كَانَ أَوْلَى فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُحَذِّرُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْحَزْمِ وَيَحْذَرُ هُوَ أَيْضًا مِنْهُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ فَيَكُونُ التَّحْذِيرُ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَيُحَذِّرُ النَّاسَ