الرُّحَمَاءِ.

وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَ عَائِشَةَ مَا بَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَيِّتٍ قَطُّ، وَإِنَّمَا غَايَةُ حُزْنِهِ أَنْ يُمْسِكَ لِحْيَتَهُ

لِأَنَّ مُرَادَهَا مَا بَكَى عَلَى مَيِّتٍ أَسَفًا عَلَيْهِ بَلْ رَحْمَةً لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَإِنَّا عَلَى فِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ (إِنَّ الْمُؤْمِنَ) أَيِ: الْكَامِلَ (بِكُلِّ خَيْرٍ) الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ (عَلَى كُلِّ حَالٍ) ; لِأَنَّهُ يَشْهَدُ الْمِحْنَةَ عَيْنَ الْمِحْنَةِ، فَيَحْمَدُ عَلَى الْمِنَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ (إِنَّ نَفْسَهُ) أَيْ: رُوحَهُ (تُنْزَعُ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: تُقْبَضُ (مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى) ; فَإِنَّهُ مَشْغُولٌ حِينَئِذٍ بِالْحَقِّ، وَعِبَادَتِهِ بِالرِّضَاءِ عَلَى قَضَائِهِ، وَإِرَادَتِهِ وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكَامِلُ مُلَابِسًا بِكُلِّ خَيْرٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ حَتَّى إِنَّهُ فِي نَزْعِ رُوحِهِ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَرَاهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ رَحْمَةً لَهُ، وَكَرَامَةً وَخَيْرًا لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ وَهَدِيَّةُ الْمُوقِنِ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمَّا حُضِرَتْ بِنْتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَغِيرَةٌ أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَمَّهَا إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَقُبِضَتْ وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَكَتْ أُمُّ أَيْمَنَ، الْحَدِيثَ.

قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخْلُو عَنْ إِشْكَالٍ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ ابْنَةٌ لَهُ، وَبِنْتٌ لَهُ صَغِيرَةٌ إِمَّا بِنْتُهُ حَقِيقَةً كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، فَهُوَ مُشْكِلٌ ; لِأَنَّ أَرْبَابَ السِّيَرِ، وَالْحَدِيثِ وَالتَّوَارِيخِ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ بَنَاتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُنَّ مُتْنَ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ إِحْدَى بَنَاتِهِ، وَيَكُونُ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ مَجَازِيَّةً، فَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ ابْنَةَ إِحْدَى بَنَاتِهِ مَاتَتْ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ فِي النَّزْعِ لَكِنَّهُ أُشْكِلَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أُمَامَةَ عَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَعْدَ وَفَاةِ فَاطِمَةَ ثُمَّ عَاشَتْ عِنْدَ عَلِيٍّ حَتَّى قُتِلَ عَنْهَا، وَلِذَا حَمَلُوا رِوَايَةَ أَحْمَدَ أَنَّهَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ ثُمَّ عَافَاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ وَقَعَ وَهْمٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِمَّا فِي قَوْلِهِ تَقْضِي وَقَوْلِهِ، وَهُوَ يَمُوتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالصَّوَابُ ابْنُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَحَدُ بَنِيهِ إِمَّا الْقَاسِمُ، وَإِمَّا عَبْدُ اللَّهِ وَإِمَّا إِبْرَاهِيمُ ; فَإِنَّهُمْ مَاتُوا صِغَارًا فِي حَيَاتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ابْنَ بَعْضِ بَنَاتِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فَفِي الْأَسْبَابِ الْمِيلَادِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ مِنْ رُقَيَّةَ بِنْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى، وَقَالَ: إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ.

وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ثَقُلَ ابْنٌ لِفَاطِمَةَ فَبُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ، وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي الْبُكَاءِ، وَالِابْنُ الْمَذْكُورُ هُوَ مُحْسِنُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ أَنَّهُ مَاتَ صَغِيرًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا غَايَةُ التَّحَقُّقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا، وَهُوَ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ.

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ: الثَّوْرِيُّ

(عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: وَجْهَهُ أَوْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ (وَهُوَ مَيِّتٌ) وَهُوَ أَخُوهُ رَضَاعًا قُرَشِيٌّ أَسْلَمَ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015