لِلْفَزَعِ، وَبِمَا صَحَّ مِنْ خَبَرِ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ.

فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ سَبَبَ الْكُسُوفِ خُشُوعُهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى.

وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ النُّورَ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ الْحِسِّيِّ، فَإِذَا تَجَلَّتْ صِفَةُ الْجَلَالِ انْطَمَسَتِ الْأَنْوَارُ لِهَيْبَتِهِ، وَظُهُورِ عَظَمَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ طَاوُسٌ: لَمَّا نَظَرَ لِلشَّمْسِ، وَهِيَ كَاسِفَةٌ فَبَكَى حَتَّى كَادَ أَنْ يَمُوتَ، وَقَالَ هِيَ أَخْوَفُ لِلَّهِ مِنَّا.

وَبِمَا تَقَرَّرَ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَظُهُورِ مَعْنَاهُ انْدَفَعَ قَوْلُ الْغَزَّالِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَيَجِبُ تَكْذِيبُ نَاقِلِهِ، وَلَوْ صَحَّ كَانَ تَأْوِيلُهُ سَهُلَ مِنْ مُكَابَرَةِ أُمُورٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تُصَادَمُ مِنْ أَصْلِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ انْتَهَى.

لَكِنْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ مَا قَالُوا: فَإِنَّ لِلَّهِ أَفْعَالًا عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ وَاقِعَةٌ لَا خَارِجَةٌ عَنْهَا وَقُدْرَتُهُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ يَقْطَعُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ، وَحِينَئِذٍ فَالْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ لِقُوَّةِ اعْتِقَادِهِمْ فِي عُمُومِ قُدْرَتِهِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ غَرِيبٌ حَدَثَ عِنْدَهُمُ الْخَوْفُ لِقُوَّةِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنَّ ثَمَّةَ أَسْبَابًا تَجْرِي عَلَيْهَا بِالْعَادَةِ إِلَى أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ خَرْقَهَا.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنْ كَانَ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُنَافِي كَوْنُ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لِعِبَادِهِ، هَذَا وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.

وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِبْطَالُ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكُسُوفَ يُوجِبُ حُدُوثَ تَغَيُّرٍ فِي الْأَرْضِ مَوْتًا أَوْ ضَرَرًا فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ خَلْقَانِ مُسَخَّرَانِ لِلَّهِ لَيْسَ لَهُمَا سُلْطَانٌ فِي غَيْرِهِمَا، وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا.

وَفِيهِ بَيَانُ

مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ وَشَدَّةِ الْخَوْفِ مِنْ رَبِّهِ.

(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ: الثَّوْرِيُّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَةً لَهُ تَقْضِي) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ أَيْ: تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ مِنَ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ أَصْلُ قَضَى مَاتَ فَاسْتِعْمَالُهُ هُنَا لِلْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ مَجَازٌ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَضَاءُ مَرْجِعُهُ إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ (فَاحْتَضَنَهَا) أَيْ: جَعَلَهَا فِي حِضْنِهِ بِالْكَسْرِ أَيْ: جَنْبِهِ، وَهُوَ مَا دُونَ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْحَاضِنَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُرَبِّي الطِّفْلَ، لِأَنَّ الْمُرَبِّيَ وَالْكَافِلَ يَضُمُّ الطِّفْلَ إِلَى حِضْنِهِ، وَالْحَضَانَةُ بِالْفَتْحِ فِعْلُهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَوَضَعَهَا) أَيْ: بَعْدَ سَاعَةٍ (بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَاتَتْ وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَصَاحَتْ) مِنَ الصَّيْحَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصَاحَتْ (أُمُّ أَيْمَنَ) وَهِيَ حَاضِنَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَوْلَاتُهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ وَأَعْتَقَهَا حِينَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ، وَزَوَّجَهَا لِزَيْدٍ مَوْلَاهُ فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ، وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ عُمَرَ بِعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَدْ شَهِدَتْ أُحُدًا وَكَانَتْ تَسْقِي الْمَاءَ، وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَشَهِدَتْ خَيْبَرَ وَتَفْصِيلُ تَرْجَمَتِهَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ بُكَاؤُهَا بِصِيَاحِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ مَعَ إِشْعَارِهِ بِالْجَزَعِ حَرَامًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَنْكَرَ عَلَيْهَا (فَقَالَ: يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنَ التَّابِعِيِّ، وَالضَّمِيرُ فِي يَعْنِي رَاجِعٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (أَتَبْكِينَ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَعَدَلَ إِلَيْهِ عَنْ عِنْدِي ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ (فَقَالَتْ) أَيْ: أُمُّ أَيْمَنَ ظَنًّا بِأَنَّ مُطْلَقَ الْبُكَاءِ جَائِزٌ (أَلَسْتُ أَرَاكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: أُبْصِرُكَ وَأُشَاهِدُكَ (تَبْكِي) حَالٌ (قَالَ: إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي) أَيْ: بُكَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَزَعِ، وَعَدَمِ الصَّبْرِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنِّي مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْوَيْلِ، وَالثُّبُورِ وَالصِّيَاحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (إِنَّمَا هِيَ) أَيِ: الْبُكَاءُ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الدَّمْعَةِ أَوْ قَطْرَةِ الدَّمْعِ أَوِ الْخَبَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (رَحْمَةً) أَيْ: أَثَرُهَا وَزَادَ فِي الصَّحِيحَيْنِ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015