حَتَّى لَوْ ذُبِحَ فِيهِ لَكَانَ مَيْتَةً هَذَا، وَالْقَوْلُ نُسِبَ إِلَى مُحْيِي السُّنَّةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا: أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ مُبَاحٌ بِخِلَافِ صَيْدِ مَكَّةَ، فَهُوَ إِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى كَمَالِ إِنْصَافِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ عِنْدَهُ فَإِنَّ النَّوَوِيَّ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ مَرْدُودٌ كَذَا سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ الْكَبْرِيِّ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَهِيَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا فِيهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ إِذَا أَمِنَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ انْتَهَى.
فَهُوَ نَقْلٌ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَعَ مَا يُرَادُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مُقْتَضَى الْعُقُولِ، وَالنُّقُولِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَفِيهِ جَوَازُ دُخُولِ بَيْتٍ بِهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ إِذَا كَانَ هُنَالِكَ مَانِعُ خَلْوَةٍ مِنْ نَحْوِ امْرَأَةٍ أُخْرَى مَعَهَا، وَهُمَا اثْنَتَانِ يَحْتَشِمُهُمَا أَوْ إِحْدَاهُمَا، وَإِلَّا حَرُمَتْ خَلْوَةُ الرَّجُلِ بِهِمَا أَوْ مَحْرَمٌ وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا عَلَى بَحْثٍ مِنْهُ انْتَهَى. وَفِيهِ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا نَفْيًا، وَلَا إِثْبَاتًا نَعَمِ الظَّاهِرُ أَنَّ أُمَّ أَنَسٍ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ دُخُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهَا مِنْ غَيْرِ حُضُورِ أَحَدٍ مَعَهُ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَحَارِمِهَا مَعَ أَنَّهُ صَرِيحٌ أَنَّ أَنَسًا مَعَهَا وَهُو إِمَّا بَالِغٌ أَوْ مُرَاهِقٌ.
وَمَا أَبْعَدَ قَوْلَ فَقِيهٍ جَوَّزَ حُضُورَ امْرَأَةٍ أُخْرَى يَحْتَشِمُهَا وَتَوَقَّفَ فِي جَوَازِ مُرَاهِقٍ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: وَفِي أَخْذِ هَذَا مِنَ الْحَدِيثِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ كَالْمَحْرَمِ ; فَكَانَ يَجُوزُ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ قُلْتُ هَذَا النَّقْشُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ثُبُوتِ الْعَرْشِ، وَمَعَ هَذَا يَرُدُّهُ تَأْوِيلُ الْعُلَمَاءِ خَلْوَتَهُ مَعَ بَعْضِهِنَّ كَأُمِّ سُلَيْمٍ بِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حُرْمَةُ رَضَاعٍ.
ثُمَّ قَالَ بَلْ قَالَ أَئِمَّتُنَا: أَنَّ سُفْيَانَ، وَغَيْرَهُ كَانُوا يَزُورُونَ رَابِعَةَ، وَيَجْلِسُونَ إِلَيْهَا.
قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَهَلْ فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ كَانَ يَخْتَلِي مَعَهَا بَلِ الْمَشْهُورُ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَجَنَّبُ إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَائِلَةً بِأَنَّهُ تَارِكُ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَحَاشَا الْأَوْلِيَاءِ مَعَ كَمَالِ وَرَعِهِمْ، وَاحْتِيَاطِهِمْ فِي الدِّينِ أَنْ يَقَعَ مِنْ أَحَدِهِمْ هَذَا الْأَمْرُ الْمَكْرُوهُ الْمُنْكَرُ شَرْعًا، وَعُرْفًا مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، وَلَا بَاعِثًا لِلْحَالِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَغْرَبَ فِي الْكَلَامِ حَيْثُ بَنَى عَلَى النِّظَامِ الْغَيْرِ التَّامِّ فَقَالَ: قَالُوا أَيْ: بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ وَجَدْنَا رَجُلًا مِثْلَ سُفْيَانَ، وَامْرَأَةً مِثْلَ رَابِعَةَ أَبَحْنَا لَهُ الْخَلْوَةَ بِهَا لِلْأَمْنِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَالْفِتْنَةِ حِينَئِذٍ انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُ بُطْلَانِهِ.
ثُمَّ زَادَ فِي الْغَرَابَةِ بِقَوْلِهِ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَحَقُّقُ الْأَمْنِ بَلْ يَكْفِي مَظِنَّتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَوَّزُوا خَلْوَةَ رَجُلٍ بِامْرَأَتَيْنِ دُونَ عَكْسِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَخْتَلِي بِهِمَا، وَيَقَعُ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ فِيهِمَا أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا لَكِنَّهُ بَعِيدٌ إِذِ الْمَرْأَةُ تَسْتَحِي مِنْ مِثْلِهَا وَبَعِيدٌ وُقُوعُ الْفَاحِشَةِ مِنْهَا بِحَضْرَتِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ انْتَهَى.
وَفِيهِ أَنَّهُ أَيْضًا قَدْ يَخْتَلِيَانِ بِهَا، وَيَقَعُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا الْفَاحِشَةُ فِيهَا بِحُضُورِهِ، فَالْبُعْدُ مُشْتَرَكٌ فِي الصُّورَتَيْنِ فِي الِاحْتِمَالِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ مَعَ وُجُودِ الْمَظِنَّةِ، بَلْ وَلَا يَصِحُّ مَعَ تَحْقِيقِ الْأَمْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ بَعْضِ الشُّرَّاحِ مِمَّا فِيهِ غَايَةُ الرَّكَاكَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَالْغَرَابَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مِمَّا أَوْجَبَ إِعْرَاضَنَا عَنْهَا وَتَخْلِيَةَ شَرْحِ الشَّمَائِلِ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: وَمَا قِيلَ الْأَظْهَرُ مِنْ أَنَّ الْمُزَاحَ مُبَاحٌ فِيهَا إِلَّا لِدَلِيلٍ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا دَلِيلَ هُنَا يَمْنَعُ مِنْهُ، فَتَعَيَّنَ النَّدْبُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، وَالْأُصُولِيِّينَ.
قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَانِعَ عَنِ السُّنِّيَّةِ نَهْيُهُ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ عَنِ الْمُزَاحِ، وَالْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ فَعَلَهُ يَكُونُ فِعْلًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَإِنَّ نَهْيَهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ كَمَا فِي الشُّرْبِ قَائِمًا، وَمِنْ فَمِ السِّقَاءِ، وَكَالْبَوْلِ قَائِمًا، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، بَلْ وَلَوْلَا أَنَّهُ ثَبَتَ الْمُزَاحُ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَّرَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ عَنْهُ لَحُمِلَ مُزَاحُهُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ هَذَا.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَا مَا نَقَلَهُ عَنِ الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ أَلْقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الْمَهَابَةَ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ مُزَاحُهُ وَلَا مُدَاعَبَتُهُ.
فَقَدْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ شَدِيدَةٌ، وَمَهَابَةٌ فَقَالَ: هَوِّنْ عَلَيْكَ ; فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، وَلَا جَبَّارٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ بِمَكَّةَ، فَنَطَقَ الرَّجُلُ بِحَاجَتِهِ، فَقَامَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا أَلَا فَتَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا مَلَأْتُ عَيْنِي قَطُّ حَيَاءً مِنْهُ، وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَلَوْ قِيلَ لِي صِفْهُ لَمَا قَدِرْتُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُ، وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ أَصْحَابِهِ فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ لَوْلَا مَزِيدُ تَأَلُّفِهِ وَمُبَاسَطَتِهِ لَهُمْ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ هَيْبَةً وَفَرَقًا مِنْهُ لَا سِيَّمَا عَقِبَ مَا كَانَ يَتَجَلَّى عَلَيْهِ مِنْ مَوَاهِبِ الْقُرْبِ، وَعَوَائِدِ الْفَضْلِ، لَكِنَّهُ كَانَ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِلَّا بَعْدَ الْكَلَامِ مَعَ عَائِشَةَ أَوْ الِاضْطِجَاعِ بِالْأَرْضِ إِذْ لَوْ خَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي تَجَلَّى بِهَا مِنَ الْقُرْبِ فِي مُنَاجَاتِهِ، وَسَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكِلُّ