وَيُقَوِّي الرِّوَايَةَ الْأُولَى (فَأَلْقَى) أَيْ رَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الشَّفْرَةَ فَقَالَ لَهُ) أَيْ لِبِلَالٍ (تَرِبَتْ يَدَاهُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ لَصِقَتَا بِالتُّرَابِ، مِنْ شِدَّةِ الِافْتِقَارِ دَعَاءٌ بِالْعَدَمِ وَالْفَقْرِ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الزَّجْرُ، لَا وُقُوعَ الْأَمْرِ، كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ إِيذَانَهُ بِالصَّلَاةِ، وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْعَشَاءِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَّسِعٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِحَالِ الضَّيْفِ، وَقِيلَ: قِيَامُهُ كَانَ لِلْمُبَادَرَةِ إِلَى الطَّاعَةِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْإِجَابَةِ، وَمَعْنَى تَرِبَتْ يَدَاهُ، لِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَحْلَاهُ (قَالَ) أَيْ لِلْمُغِيرَةِ (وَكَانَ شَارِبُهُ) أَيْ شَارِبُ الْمُغِيرَةِ (قَدْ وَفَى) أَيْ طَالَ، وَفِي نُسْخَةٍ وَكَانَ شَارِبُهُ وَفَاءً (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَهُ) أَيْ لِلْمُغِيرَةِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ وَشَارِبِي وَفَاءً أَيْ تَمَامًا، فَقَالَ لِي فَوَضَعَ مَكَانَ الضَّمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْغَائِبَ، إِمَّا تَجْرِيدًا أَوِ الْتِفَاتًا (أَقُصُّهُ) بِتَقْدِيرِ اسْتِفْهَامٍ أَوْ لِمُجَرَّدِ إِخْبَارٍ (لَكَ) أَيْ لِنَفْعِكَ أَوْ لِأَجْلِ قُرْبِكَ مِنِّي (عَلَى سِوَاكٍ) أَيْ يُوضَعُ السِّوَاكُ تَحْتَ الشَّارِبِ، ثُمَّ قَصَّهُ مَا فَضَلَ عَنِ السِّوَاكِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَصُّ بِالشَّفْرَةِ أَوْ بِالْمِقْرَاضِ (أَوْ قُصُّهُ) بِضَمِّ الْقَافِ وَالصَّادِ وَتُفْتَحُ أَيْ أَنْتَ (عَلَى سِوَاكٍ) وَالشَّكُّ
مِنَ الْمُغِيرَةِ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْقَافِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَالَ، أَيْ قَالَ كَانَ شَارِبُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَقَصَّهُ كَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى فَقَالَ، أَيْ فَقَالَ أَقُصُّهُ أَوْ قُصَّهُ عَلَى سِوَاكٍ، ثُمَّ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ قَالَ، وَكَانَ شَارِبُهُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَا يُلَائِمُ وُقُوعَهُ بَعْدَ الْإِيذَانِ، وَرَمْيِ الشَّفْرَةِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَيْضًا يُزَيِّفُ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي شَارِبِهِ لِبِلَالٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ كَوْنُ بِلَالٍ قَبْلَ الْإِيذَانِ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي شَارِبِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَقُصُّهُ لَكَ أَيْ لِأَجَلِكَ تَتَبَرَّكُ بِهِ، انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُ قَوْلَ الْأَوَّلِ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا طَوِيلَ الشَّارِبِ، فَدَعَا بِسِوَاكٍ وَشَفْرَةٍ، فَوَضَعَ السِّوَاكَ تَحْتَ شَارِبِهِ، ثُمَّ حَزَّهُ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: " كَانَ شَارِبِي وَفَى فَقَصَّهُ لِي عَلَى سِوَاكٍ "، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَعْيِينُ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، أَنَّ فَاعِلَ قَالَ هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَالَ هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نَقَلَ كَلَامَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالْمَعْنَى، فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الِالْتِفَاتِ، تَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّرَّاحِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ يُوَافِقُهُ ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ، فَالْعِبْرَةُ بِالْمَعْنَى وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَبْنِيُّ هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ لَا يُبَالِغَ فِي إِحْفَائِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يُظْهِرُ بِهِ حُمْرَةَ الشَّفَةِ، وَطَرَفَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ فِي الْأَحَادِيثِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا هَلِ الْأَفْضَلُ حَلْقُ الشَّارِبِ أَوْ قَصُّهُ، قِيلَ: الْأَفْضَلُ حَلْقُهُ لِحَدِيثٍ فِيهِ، وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ الْقَصُّ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، بَلْ رَأْيُ مَالِكٍ تَأْدِيبُ الْحَالِقِ، وَمَا مَرَّ عَنِ النَّوَوِيِّ قِيلَ: يُخَالِفُهُ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ عَنِ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ أَنَّهُمَا كَانَا يَحْفِيَانِهِ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، الْإِحْفَاءُ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يُحْفِيهِ شَدِيدًا، وَرَأَى الْغَزَّالِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ السِّبَالَيْنِ، اتِّبَاعًا لِعُمَرَ وَغَيْرِهِ ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتُرُ الْفَمَ، وَلَا يَبْقَى فِيهِ غَمْرُ الطَّعَامِ، إِذْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ، وَكَرِهَ الزَّرْكَشِيُّ إِبْقَاءَهُ لِخَبَرِ صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَجُوسُ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ،