يَحْسِم هذه المادةَ، فيصير الأولُ مثلَ بناء الأسوار للأمصار، والثاني كتركِها بلا سوْرٍ. بل الأول بمنزلة كشفِ النساءِ الحِسان لوجوههن، والثاني كسَتْرِها، أو الأول بمنزلة تركِ المُرْدَانِ الصِّباحِ يُعاشِرون الأجانبَ، والثاني كصَوْنهم من هذه العِشرة. فإن لم يكن الثاني واجبًا أو مستحبًّا فلا أقلّ من أن يكون مباحًا.
وهذا معنى قولِ بعضِ الناسْ طريقةُ السلَف أسلمُ، وطريقةُ الخلفِ أَحْزَم وأَحْكَم؛ لأنّ طريقة أهل التأويل فيها مخاطر بالإخبار عن مُرادِ الله بالظنّ، الذي يجوز أن يكون صوابًا ويجوز أن يكون خطأً، وذلك قولٌ عليه بما لا يُعلم، والأصلُ تحريمُ القول عليه بالظنّ، وكان تركُها أسلم. وفي طريقة أهلِ التأويل حَسْمُ موادِّ الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة، فكانت أحْزَمَ وأحكمَ.
وصار في المثال بمنزلة قوم من المسلمين بلغَهم أن العدوَّ قاصدُهم، وبيتُ المالِ خالٍ، فهل يسوغُ أن يجمع من أموالهم ما يَبني به سُورَهم لحفظِهم من العدوّ إلى لحوق الذرى، واندفاع العدو بشدة البرد (?) المخاطرة بأخذِ الأموال بغيرِ طيب نفوسِ أصحابها، وفيه إحكام الحفظ للنفوس وباقي الأموال، والَحَزْم بضبطِ الدين عن الانحلال.
وهَبْ هذه مسألة اجتهادية يرى فيها قومٌ الحظرَ، وقومٌ الوجوب، وقوم يُخيِّرون بين الأمرين، وقوم يُوجبون فعلَ الأصلح. ويختلفُ الأصلحُ باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص.