كذلك العلوم والطرق، فمن كان ذكيًّا كان شوقُه إلى دَرْكِ الأمور الدقيقة أشدَّ، ومن راضَ عقلَه بكثرة النظر في العلوم والبحث عن أسبابها وأصنافِها كانت حاجتُه إلى الازديادِ منها والوقوف عليها أشدَّ. والمتعمقون في الكتاب والسنة ولو في الأحكام فقط يحصل لهم من الحاجة والشوق إلى معرفة معاني كثير من النصوص ما لا يحصل لغيرهم من المعرضين. وإذا كان نقل الواجب والمستحب قد يَستلزمُ الحاجةَ والشوقَ إلى أشياءَ، فكيف يحرم؟ وإنما الشوق بحسب الإدراك. ولهذا من لم يَرَ المطاعم الشهيَّة والمناظرَ البهيَّة لا يشتهيها كشهوةِ المبتلَى بها. فمن لم تَنفتِحْ عينُ بصيرتِه لصنوف المعارف، ولا توسَّعَتْ في قلبه أنواع المعالم، لا يحتاج إلى الإدراك كحاجة أولي البصائر الوقَّادَة والمعارف المستفادة، ولا يَشتاق كاشتياقِهم. وهذا تقريرُ قولِ السائل -أيدهُ الله-: "لعالمٍ متبحِّر لا يَرضى بأسرِ التقليد".

الخامس: أن نعمة الله على عبادِه بنفوذ البصيرة من أفضل النِّعَم، وإدراك حقيقة مرادِ الله ورسوله من أفضل إدراك الحقائق، فكيف يحرم استعمال هذه النعمة الجليلة في مثل هذا المطلوب الشريف؟ وهل ذلك إلاّ أقبح من تحريم استعمال قُوَى الأبدان في دَفْع أعداءِ الدين وعبادةِ ربّ العالمين، وتحريم إنفاق الأموالِ في سبيَل الله. بل تحريمُ هذا تحريم لطلب الدرجاتِ العُلَى والنعيم المقيم، والله لا يُحرم مثلَ هذا، بل يَستحبُّه إن لم يُوجِبْه.

السادس: أن إبقاءَ النصوصِ المصروفة عن دلالتها الظاهرة بلا تأويل معين بنفيها ذريعةٌ إلى اعتقادِ موجبِها وتقلُّد مقتضاها. وتأويلُها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015