أربابُ هذه البدع في أيامِهم أصاغِرَ مَقموعِينَ، [و] كانت دلائلُ الحقّ وآياتُه ظاهرةً مشهورةً لمن كان لها يستبين. فقُتِلَ برأيهم غَيْلاَن القدري والجَعْدُ بن درهم والجهم بن صفوان المعطِّلان ونحوهم من الظالمين.
إلى أن كان في أواخر المئة الثانية قَلَّ أولئك الهُداةُ وكثُر هؤلاء الغُوَاة، واستعوزُوا إلى باطلهم بعضَ الوُلاَةِ، حتى ظهرتْ محنةُ الصفاتِ في علماء المسلمين، ودَعَوهم إلى القولِ بخلق القرآن، إذ هو مفتاحُ جُحودِ الصفات، وأقربُ من غيرِه إلى المبتدئين. وظهرَ في الإسلام ما لم يُعْهَد مِثلُه من الفتنةِ في الدين، حتى عدَّ الناسُ من قام به ما كان أسى وصبرًا من العلماء، ومن أطفأَ شَرَرها من الخلفاء دفعًا بجراءة، مُفَضلاً على غيرِه من الأولين، وانكسرتْ بذلك سَوْرَةُ أهل البدع ظاهرًا، ولكن في النفوسِ مِن طواياها كَمِيْن مَكيْن.
وصارَ من أسباب الفتنة أنَّ نَقَلَةَ الآثار قَلَّ فيهم الفقهُ والعَقْلُ، كما أنّ ذوي النظر والاعتبار ضَعُفَ علمُهم بآثار النبيين، ولن يتِمَّ الدينُ إلاّ بمعرفةِ الآثار النبوية والسَّلَفية وفِقْه لما قَصَدُوه من المعاني الدينية، كما كان علماء السالفين، وصارَ ذلك سببًا لإعراض كثير من طلبةِ العلم من أعيانهم عن النظر في قواعدِ الدين.
وظهرَ في الدولة المعتصميّة مُقاربًا للمحنة الجهمية من الطائفة الخرَّمِيَّة مَن يقول بتواتر النبيين جَريًا على منهاج الفلاسفة وسلوكًا لسبيلِ الصابئين، حتى جَرَت بينهم وبين المسلمين من الحروب ما هو مشهورٌ عند المؤرخين.