وذلك لأن أول مرتبة المحبة (?) تُسمَّى الاستحسان، وهي المتولدة عن النظر والسماع، ثم تَقْوَى هذه المرتبة بطولِ الفكرة في محاسنِ المحبوب وصفاتِه الجميلة، فتصير مودَّةً، وهي الميل إليه والألفة بشخصه. ثمَّ تتأكَّد المودَّةُ فتصير محبة، والمحبة هي الائتلاف الروحاني. فإذا قويت صارت خُلَّة، وهذا أصحُّ الأقوال. والخلّة بين الآدميين هي تمكُّنُ محبةِ أحدهما من قلب صاحبه حتى يسقط بينهما السرائر، ثمَّ تقوى الخُلَّة فتصير هَوى، والهوى أن المحبَّ لا يُخالِطه في محبوبه تَغيُّرٌ، ولا يُداخِلُه تَلوُّنٌ. ثمَّ يزيد الهوى فيصير عِشْقًا.
والعشق الإفراط في المحبة حتى لا يخلو العاشقُ من تخيُّلِ المعشوق وفكرِه وذكرِه، ولا يَغيبُ عن خاطرِه وذهنِه، فعند ذلك يَشغلُ النفسَ عن استخدام القوة الشهوانية والنفسانية، فيمنع من النوم لاستضرار الدماغ. فإذا قوي العشقُ صار تتيُّمًا، وفي هذا الحال لا يوجد في قلبه فضلة لغير تصور معشوقه، ولا يرضى نفسه بسواها. فإذا تزايد الحال صار وَلَهًا، والوَلَهُ هو الخروج عن الحدود والضوابط حتى تختلَّ أفعالُه وتتغيَّرَ صفاتُه، ويصيرَ مُوَسْوسًا لا يَدري ما يقول ولا أين يذهب، فحينئذٍ يَعْجز الأطباءُ عن مداواتِه، وتَقْصُرُ آراؤهم عن معالجته، لخروجه عن الحدود والضوابط.
قال بعضهم (?):
الحبُّ أول ما يكون لَجَاجةٌ يأتي به ويسوقُه الأقدارُ