وَقَوْلُهُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ، وَيُنْكِرُ أَنَّهُ لِمَنِ ادَّعَاهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ» فَأَمَّا مَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ مُدَّعٍ لِنَفْسِهِ مُنْكِرٌ لِدَعْوَاهُ، فَهَذَا أَسْهَلُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَلَا بُدَّ لِلْمُدَّعِي هُنَا مِنْ بَيِّنَةٍ، وَلَكِنْ يُكْتَفَى مِنَ الْبَيِّنَةِ هُنَا بِمَا لَا يُكْتَفَى بِهَا فِي الدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ الْمُنْكَرِ.

وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَسَائِلُ: مِنْهَا: اللُّقَطَةُ إِذَا جَاءَ مَنْ وَصَفَهَا، فَإِنَّهَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ الدَّفْعُ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، وَلَا يَجِبُ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجِبُ دَفْعُهَا بِذِكْرِ الْوَصْفِ الْمُطَابِقِ، كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.

وَمِنْهَا الْغَنِيمَةُ إِذَا جَاءَ مَنْ يَدَّعِي مِنْهَا شَيْئًا، وَأَنَّهُ كَانَ لَهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَهُ اكْتُفِيَ بِهِ، وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَحْمَدُ وَقِيلَ لَهُ: فَيُرِيدُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً؟ قَالَ: لَا بُدَّ بِهِ مِنْ بَيَانِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَهُ، وَإِنْ عُلِمَ ذَلِكَ، دَفَعَهُ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ. وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَشَرَ لِأَخِي فَرَسٌ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَرَآهُ فِي مَرْبِطِ سَعْدٍ، فَقَالَ: فَرَسِي فَقَالَ سَعْدٌ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَدْعُوهُ، فَيُحَمْحِمُ، فَدَعَاهُ فَحَمْحَمَ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لَحِقَ بِالْعَدُوِّ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهُ ضَالٌّ، فَوُضِعَ بَيْنَ الدَّوَابِّ الضَّالَّةِ، فَيَكُونُ كَاللُّقَطَةِ.

وَمِنْهَا الْغُصُوبُ إِذَا عُلِمَ ظُلْمُ الْوُلَاةِ، وَطُلِبَ رَدُّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرُدُّ الْمَظَالِمَ إِلَى أَهْلِهَا بِغَيْرِ الْبَيِّنَةِ الْقَاطِعَةِ، كَانَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015