النوع الثالث: مفهوم الغاية، وهو: دلالة اللفظ الذي قيد الحكم فيه بغاية على نفي ذلك الحكم بعد تلك الغاية.
فإذا قلت: أطعم محمداً إلى الظهر.
أي: بعد الظهر لا تطعمه، فهنا الحكم للغاية وهي إلى الظهر، أما بعد الظهر فلا تطعمه.
ومثاله: قول الله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230].
فإذا طلق الرجل امرأته وقال لها: أنت طالق، طالق، طالق.
ثلاثاً، فقد وقعت بينونة كبرى، ولا يحل له أن يردها حتى تنكح زوجاً غيره.
فمنطوق الآية: أن المرأة المطلقة ثلاثاً لا يجوز للرجل أن يردها حتى تنكح زوجاً غيره.
وأما مفهوم المخالفة: إن نكحت زوجاً غيره وطلقها أو مات عنها فله أن يردها.
ومثاله أيضاً: قول تعالى عن الصائمين: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187].
المنطوق: إباحة الأكل والشرب الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
ومفهوم المخالفة: إذا تبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود فلا نأكل.
وهذا هو الذي فهمه ابن عباس فقال: (كل إذا شككت حتى تستيقن) يعني: إذا قمت من الليل، وشككت هل أذن الفجر أم لا؟ فإن لك أن تأكل حتى تستيقن من الأذان؛ لأن الله جل وعلا قال: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] أي: حتى يستيقين.
ومثاله أيضاً: قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9].
فـ معاوية وعلي رضي الله عنهما اقتتلا، فإذا قلنا: هذا القتال الحق فيه مع علي، وإن معاوية رضي الله عنه وأرضاه كان متأولاً اجتهد فأخطأ، فله أجر، فنقول: نقاتل مع الفئة التي معها الحق، حتى ترجع الفئة الباغية إلى الحق، فإذا رجعت إلى الحق فلا قتال.
وهذا هو الفقه الذي نادى به العلماء في قتال أهل العراق في حرب الكويت، لأن العراق ظلمت الكويت واعتدت عليها، فكانت فئة باغية، فلابد أن تُقاتل حتى ترجع إلى حدودها، ثم يُكف عن القتال.
فإذا رجعت فلا تدك، ولا تقتل؛ لأن المقصود هو: قتال الفئة الباغية حتى تردها عن البغي، فإذا ردت عن البغي فلا يجوز لك أن تقاتلها، وهذا هو العمل بمفهوم المخالفة.
إذاً: المنطوق: وجوب قتال الفئة الباغية.
ومفهوم المخالفة: عدم جواز قتالها إذا فاءت لأمر الله تعالى.
ومثاله أيضاً: قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222].
فالمرأة الحائض لا يجوز للمرء أن يقترب منها، يعني: لا يجامعها، لكن له أن يتمتع بها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلوا كل شيء إلا النكاح) يعني: إلا الوطء.
وهنا قال: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] إذاً: لا يقرب الرجل المرأة الحائض إلى غاية، والغاية هي الطهر.
ومفهوم المخالفة: إذا طهرت امرأتك فلك أن تقترب منها.