الأعراف الدنيوية قولية وفعلية.
فأما القولية فمثلاً: المصطلحات عند أرباب الحرف، فهي تصح حتى ولو كانت كلمات مستقبحة عند بعض الناس، لكنها عند بعض المجتمعات أعراف معروفة، فليس فيها شيء.
مثال ذلك: استخدام لفظ (الولد)، فكثير من المجتمعات إذا قيل: محمد رزقه الله ولداً، وعقيقته الأسبوع القادم، يتبادر إلى الذهن أنه ذكر، مع أن (الولد) لفظ يطلق على الذكر والأنثى، ومع ذلك نحن نقول: الولد في عرف المجتمع يسمى ذكراً، ويفيدنا هذا في الهبة، فلو جاء رجل من بعيد وقال: إني أحبك فخذ هذا وأعطه لولدك، فيعطى لمحمد أو أحمد، ولا يعطى للبنات؛ لأنه قال: أعطه لولدك، والولد في العرف هنا يطلق على الذكر، أيضاً العرف هنا محكم.
ومن الأقوال أيضاً: اللحم، يطلق في العرف على: لحم البقر والغنم والبعير، ولكن لا يطلق على السمك، مع أنه بلسان الشرع يطلق على السمك أيضاً: قال تعالى: {لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل:14]، وهذا يفيدنا في القسم وفي الطلاق.
فمثلاً: لو دخل رجل على امرأته ورأى وجهها فلم يعجبه، فقال لها: أنت طالق لو لم تأكلي هذا النهار لحماً، فأتت بسمك وأكلت منه، فحكمها طالق في العرف، ولو واحد قال: والله لا آكلن اللحم أسبوعاً، وكل يوم يأكل سمكاً، فهذا لم يحنث في يمينه؛ لأن السمك في العرف لا يسمى لحماً.
ومن الكلمات التي تنتشر بين العامة ولا يفقهونها، ولو طبق الشرع لجلدوا عليها مائة جلدة، وهذه الكلمة لا أستطيع أن أنطقها، لكن أتكلم بحروفها وهي: الخاء والواو واللام، وهذه الكلمة كثير من الساقطين والساقطات يلوكها بلسانه، ويتكلم بها، وهو لا يدري معناها، وفي اللغة العربية معناها: بوأته مكانة، فتقول: خولت محمداً مكانة كذا، أي: بوأته مكانة، لكن إذا قالها واحد لآخر فالعرف الآن جارٍ على أنه يقصد بها: مسبة، وهي: فعل قوم لوط، وهذا الذي أخذ به الإمام مالك بأن القرائن المحتفة يمكن أن تقيم الحدود، ولا يبقى فيه شبهة تدرأ بها، وهذا هو الصحيح، فلو قال واحد لواحد: يا كذا! بهذه الكلمة، وهي في العرف غلبت على اللغة، وهي الآن مسبة فيجلد عليها مائة جلدة، فالعرف يحكم، ونقول: هذا قاذف، ولا بد أن يجلد مائة جلدة؛ ولذلك كثير من العامة يسقطون في مثل هذه الكلمة، ولا يلقون لها بالاً، فلابد أن يجلدوا مائة جلدة بسبب هذه الكلمة.
وأما الأعراف الفعلية الدنيوية، فنمثل لها بمسألة تهم كل عاقد: ففي الخطوبة يأتي الخاطب بهدايا، ويشتري ذهباً، وهو ليس من المهر في شيء، ويعطيها للمخطوبة مودة ومحبة، أسبوعاً، أو أسبوعين، أو ثلاثة، ثم تكشر له عن أنيابها، ويعرف حقيقتها، فيقول: أنا لم أدخل بك، ولم أعقد عليك، لكن أنت طالق إلى يوم الدين.
فهذه الهدايا التي أتى بها لا تعتبر من المهر؛ لأنها في العرف تعتبر هدايا، فلا يجوز له أن يأخذ شيئاً منها، حتى لو عقد عليها، وكتب المهر وأتى لها بالشبكة، والشبكة متعارف عليها أنها من المهر، وإن كانت هدية، فتأخذ حكم الهدية، والمتعارف عليه أن كل الهدايا التي أتى بها لا يمكن أن ترد له؛ لأنها ليست من المهر، بل العرف يقول: إنها هدايا، وتسمى هدايا، وهذا عرف سائد بين المجتمعات المصرية على أن كل شيء يأتي للزوجة من الهدايا لا ترد، وإن حدث طلاق؛ لأنها هبة قال صلى الله عليه وسلم: (الراجع في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) والصحيح: أن هذه من الأعراف المتعارف عليها.
ومسألة: تقسيم المهر: المعروف أنه يجب أن تعطي المهر كله، ولكن المأذون الشرعي عندنا يكتب المقدم ربع جنيه لكي لا يعطيها شيئاً، والمؤخر أربعين ألفاً، ولا يعلم المسكين أن المؤخر دين في ذمته، ولو مات سيحبس في قبره، فإذا كتب على نفسه مؤخراً فهو دين في ذمته، إلا أنه يضحك عليها حتى تقول: أسقطت ما عليك.
والمهر في العرف ينقسم إلى: مقدم ومؤخر، وهذا كله يسمى مهراً، وهو لم يعطها شيء، فلما يحدث التشاحن والتباغض والتدابر، ولا يستطيع هو أن يقيم دين الله معها، ولا تستطيع هي ذلك، ففي الطلاق يقول لها: ليس لك عندي إلا المؤخر، ويكون المقدم خمسة آلاف والمؤخر عشرين ألفاً، فليس لك عندي إلا العشرين ألفاً، والصحيح: أن لها الخمسة والعشرين ألفاً؛ لأن المقدم والمؤخر كله يسمى مهراً، ولكن بالعرف قسم إلى مقدم ومؤخر، وهو شرعاً يسمى مهراً.
كذلك: البيع بالتعاطي: مثل رجل يريد أن يستأجر سباكاً فيقول: ائتوا بالسباك فيأتي السباك، ولا يتكلم، ويصلح الصنبور بدون كلام، ويأتي بالبضاعة وينتهي منها.
فيسأله: كم تريد؟ ويأخذ عشرين جنيهاً، وهذه عامة في الأعراف أنه لن يقول له: أستأجرك لتصليح الصنبور بكذا، بل يأخذ الأجرة عرفاً، فأي سباك معروف أنه يأتي ويصلح الصنبور بعشرة جنيهات، فهو يصلحها، ويأتي بالجلدة، ويعمل كل ما عليه، فيعطيه عشر جنيهات دون أن يقول له: استأجرتك، ولا الآخر يقول: قبلت، وهذا فرع عن أصل، والأصل هو: بيع المعاطاة، وهو: أنه يأتي ويأخذ عشرين رغيفاً، ويترك للرجل المال من غير أن يقول له: أشتري منك، أو البائع يقول له: بعتك العشرين رغيفاً بعشر جنيهات، والآخر يقول: قبلت، فمتعارف عليه بين الناس أنه يضع العشر جنيهات ويأخذ العشرين رغيفاً ويذهب، فالعرف يتحكم في مثل هذه المسألة أيضاً.