إن هذه الشريعة العظيمة إذا أمرت بشيءٍ فإنها تأمر بجميع ما يتوقف حصول هذا الشيء عليه، وإذا نهت عن شيء فإنها تنهى عن جميع الأشياء التي يتوقف حصول هذا المنهي عليها وهذا من باب الكمال، فإن الشريعة إذا سدت بابًا فإنها تسد معه جميع الأبواب المفضية إليه، وهذا هو عين الحكمة وذلك ليكون سياجًا مانعًا من الوقوع في المحرم قصدًا، فإنه لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت هذه الطرق وهذه الأسباب تابعة لها في الحكم، فكل وسائل الحرام حرام، وكل وسائل الطاعات طاعات فوسائل الواجب واجبة، ووسائل المندوب مندوبة، ووسائل المكروه مكروهة، ووسائل الحرام حرام، وهذه سياسة حكيمة حتى في ملوك الدنيا فإنهم إذا منعوا شيئًا منعوا جميع أسبابه وسدوا جميع طرقه، وإذا أمروا بشيء فإنهم يسهلون جميع أسبابه ويفتحون كل طرقه، وهذا من الكمال في المخلوق الذي لا نقص فيه، فالله أولى به فإن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فكان من عين الحكمة سد جميع الأبواب المفضية إليه.
وقد دل على هذه القاعدة أدلة كثيرة نذكر بعضها وهي كالفروع لهذه القاعدة:
فمنها: قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين المجرد مع كون السب لها غيظًا وحمية لله تعالى وإهانة لآلهتهم فيه مصلحة (?) ، لكن سد هذا الباب؛ إذا كان يفضي إلى مفسدة أعظم وهي سب الله تعالى فسد جل وعلا هذا الباب درءاً لمفسدةٍ أعظم من المصلحة المترتبة على فتحه، وهذا الفرع يدخل تحت قاعدة: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .