وكذلك الله تعالى جعل لمن عليه حق العباد أن يخرج عنه بعين الواجب وبمثله حتى يجب على صاحبه الحق أخذ المثل كما يجب أخذ العين نظراً لمن عليه الحق ليخرج عن عهدة الواجب، فلما كان كذلك في حقوق العباد ففي حقوق الله تعالى أولى لأنه أكرم.
ثم الشرع فرق بين وجوب القضاء والأداء حكماً فجعل من شرط وجوب الأداء مكنة الصبر منه حكمة وعدلاً فقال: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ولأن المطلوب بالأمر فعل مختار على ما عرف، ولا اختيار بدون القدرة والمكنة، ومكنة المال بملك المال لأنه لا يتأدى ما هو عبادة بمال غيره، وإن أذن صاحبه، وغير العبادة وإن كان يتأدى بمال الغير فلا يقدر عليه من عليه الحق بدون الإذن من صاحبه، ويتأدى بدون قدرة بدنه فإنه يأمر غيره بالأداء من ملكه فيصح، وإن عجز هو في نفسه ومكنه البدني بقدرة بدنه لأنه لا يتأدى ببدن غيره بحال.
ثم المكنة التي هي شرط وجوب الأداء حكمة وعدلاً ما لابد لأداء الواجب منه وهي بوجودها بالعمر بقدر ما يتمكن من الأداء بها لجواز الإيجاب على أن يكون الأداء متأخراً عنه إلى حين، فإن كانت المكنة قائمة عند الوجوب ثم زالت بعد التمكن من الأداء لم يسقط الواجب بزوالها، لأن العجز جاء من قبل العبد بالتأخير مع الإمكان فاعتبر في حق الوقت الذي هو ظرف الفعل قدر الإمكان، كما اعتبر في حق الآلة التي يؤدى بها بقدر الإمكان فإن مات بعد أن تعذر أن يقدر، أثم لما فيه الفوت بتأخيره مختاراً ولم تكن الإباحة عذراً له، لما ذكرنا في تأخير الحج على أصل محمد رحمه الله، ولم يأثم قبله لأنه تأخير وإنه مباح له ما لم يصر تفويتاً على ما مر أن نفس الوجوب لا يوجب البدار إلى الأداء لازماً إلا بطلب صاحبه، وإن لم تكن المكنة قائمة عند الإيجاب ولم يقدر حتى مات لم يؤاخذ به لأنه لم يصيب المكنة وإنها شرط ليجب الأداء، وما لم يجب لم يأثم بتفويته.
ومن الأداء ما لا يجب إلا بقدرة زائدة على المكنة ميسرة للأداء رحمة من الله تعالى وفضلاً على ما قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقال: {ويضع عنهم إصرهم}.
ومن حكم هذه القدرة: أن دوامها شرط لبقاء أداء الواجب كما يشترط للابتداء بخلاف الأولى لأنها شرطت بقدر المكنة، وإنها تحصل بالتمكن من الأداء فلم تشترط أمد منه، وهذه شرطت ميسرة وهي في الزيادة على قدر المكنة فلم يتقدر الوجوب بقدر المكنة من الفعل في حق الوقت الذي هو ظرف كما لم يجب بقدر الممكن من حيث الآلة التي بها يتأدى فبقي متعلقاً بالزيادة عليه، وهي في الدوام، ولأن القدرة الميسرة متي شرطت للوجوب كانت مغيرة لصفة الوجوب بأن تجعله خفيفاً سهلاً بالحال التي تعلق الوجوب بها