كما تصدق الله تعالى برخصة المسح بشرط اللبس وللعبد خيار في اللبس.
وكما رخص في أيام الرمي في الحج بقوله: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى} فخير العبد بين القليل والكثير.
وكما أن الله تعالى رخص لنا في أحكام علقها بسفر نختاره، كذلك هنا رخص بصدقة علقها بقبولنا فكان الخيار ثابت فيما فوض إلينا مباشرته ولم يلزمناه في ما شرع من تعليق الرخصة بالقبول فإنه ماض ثابت.
قلنا: إن الرخصة في قصر الظهر لا في شيء آخر، وقد ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" والصدقة بالواجب في الذمة إسقاط كصدقة الدين على الغريم وهبة الدين له فيتم بغير قبول، وكذلك سائر الإسقاطات تتم بغير قبول، إلا أن ما فيه تمليك مال من وجه قبل الارتداد بالرد، وما ليس فيه تمليك مال لم يقبل كإبطال حق الشفعة والطلاق، وفيما نحن فيه ليس بمال، ولأنا لم نجد في أصول الشرع سبب شريعة شرعها الله تعالى وعلق تمام ذلك السبب لما شرع بنا حتى يصير ثبوت الشرع بسبب شرعه الله تعالى ونحن جميعًا فيكون بالشركة فإن ثبوت الشرائع بالله تعالى وبرسوله.
والمشروعات ضربان: علل للأحكام مفوضة مباشرة العلل إلينا، كما شرع الشراء علة للملك ومباشرته إلينا، والسفر سببًا للرخص ومباشرته إلينا فكان المشروع علة وتمت العلة علة بشرع الله تعالى لا بنا، وإنما يكون بنا أداؤها وقد يكون أحكامًا تتم بالشرع وإلينا إقامتها.
والمشروع هنا سبب وهو السفر وإلينا تحصيل السفر، ثم حكمه وهو القصر فعلينا العمل به.
فإما أن يكون لنا شركة في نصب الشرع بمشيئتنا فهذا لا نظير له لأنه يخرج عن حد الابتلاء بالتعليق بمشيئتنا والله تعالى ابتلانا بما شرع من الشرائع على حدودها، والابتلاء فيما يلزمنا بلا مشيئة منا ألا ترى أنا لا نقول: أن الله تعالى ابتلانا بالشراء والهبة لأن لا لزوم، ولكن نقول: ابتلانا بعقد أنه مباح لأنه يلزمنا ذلك، وابتلانا بأحكامها إذا باشرناها لأنها تلزمنا، وابتلانا بأنا لا نملك إلا بسبب لأنه حكم يلزمنا ويصير هذا كقوله: اقصروا الصلاة إذا شئتم، وما ورد به أمر في شيء من الشرائع فكان التعليق بالمشيئة تمليكًا لأن المالك هو الذي يتصرف عن مشيئته، ولم يكن أمرًا واستعبادًا ولا ابتلاء ويكون تفويضًا إلينا نصب الشريعة.