وكذلك خلق النفوس وقدر بقاءها إلى آجالها ولا طريق للبقاء غير إصابة المال بعضهم من بعض فقدر المحتاج إليه لكل شخص لن يتهيأ له إلا بأناس آخرين وبما في أيديهم، فشرع الله لذلك أسباباً للإصابة على تراض ليكون طريقاً لبقاء ما قدره الله تعالى من غير فساد ففي الأخذ بالتغالب فساد.
ويدل عليه أن الله تعالى خلق الدنيا دار محنة وابتلاء بخلاف هوى النفس على ما قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} والعبادة أعمال بخلاف هوى النفوس، وما خلقها دار نعمة واقتضاء شهوة، وإنما هي دار الآخرة للمؤمنين فعلمنا أنه ما شرع لنا طريق الأكل والوطء وما يقضى من الشهوات بالأموال لأنفسها بل لحكم تحتها ابتلانا بإقامته.
وفي الناس مطيع يعمل لله تعالى بلا شهوة له، وعاص لا يعمل فخلق الله الشهوات مقرونة بها ليأتيها المطيع لحق الأمر، والعاص لحق الشهوة فيتأدى بالفريقين جميعاً حكم قدرة الله تعالى فيكونوا جميعاً في ما فعلوا مبتلين بها من الله تعالى بخلاف هوى نفوسهم، فإن الله تعالى قدر أن يكون للنار خلق استوجبوها بما كان منهم، وكذلك قدر أن يكون للجنة خلق استحقوها بما كان منهم جزاء وفاقاً فحفت النار بالشهوات والجنة بالمكاره، فصار مرتكب الشهوة مع الصابر على المكروه مبتلين بإقامة ما حكم الله تعالى على ما قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس} الآية وإنما كانوا لجهنم بما كان منهم من خلاف الأمر على سبيل الاختيار وقال: {فسنيسره لليسرى} {فسنيسره للعسرى} وقال صلى الله عليه وسلم: "كل ميسر لما خلق له" فصار كل منا مبتلى بعمل خلق له في عامة أمره تقديراً أطاع الأمر أو ارتكب النهي اثباتاً لقهر العبودية عليهم، وعظمة الألوهية تبارك الله الواحد القهار.
فالمطيع في طاعة ربه لأول أمره مبتلى بخلاف هوى نفسه.
والكافر مبتلى في طاعة نفسه لإقامة حكم الله في عاقبة أمره، بخلاف هوى نفسه إلا أن ابتلاء المطيع بالأمر وابتلاء الكافر بالقدر والحكم لله الأكبر.