ولما ثبت أن بالعقل كفاية كان بنفسه حجة بدون الشرع، ولزم العمل به كما يجب بالشرع وبسائر الحجج إذا قامت.
والجواب عن قولهم: إن الله تعالى لم يدعنا والعقول، فإن ذلك من الله رحمة أو لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات والحدود التي بها تتمة الدين أو كان أمر البعث والجزاء مما يشكل مع العقل وحده إلا بجد تأمل، فيه حرج يعذر الإنسان بمثله ولا إيمان بدونه فكان حقاً على الله تعالى بعث الرسل لبيان ما به تتمه الدين لا لمعرفة الخالق.
وقال بعضهم: بعث الرسل رحمة أو نقول: إن الله تعالى لم يدعنا ورسولاً واحداً من أوله إلى آخره، والحجة كانت قائمة بالواحد كما بقي لمحمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ورب قوم بعث الله إليهم رسلاً فلم يدعهم ورسولاً واحداً ولم يدعنا الله، والبيان بآية واحدة بل بآيات متكررة فلا يدل أن الآية الواحدة لم تكن كافية.
على أن نصور المسألة في رجل نشأ في شعفة من الجبل لم يسمع من أمر الرسل شيئاً، وبلغ مبلغ العقلاء والجواب عن قولهم لو كان بالعقل كفاية لما اختلف العقلاء فيه أن ذلك الاختلاف لاختلافهم في جهة الاستعمال كما اختلفوا بعد دعوة الرسل.
وكما اختلف الأطباء في الأدوية فالمقتصر في اجتهاده لا ينال الحقيقة.
وكذلك الغالي يتعداها فإذا جاء الوحي والعصمة عن التقصير والغلو صار الدين واحداً، وكما اختلفوا في معرفة الرسل والعذر ينقطع بهم.
فصل
وأما الذين قالوا: إن الاستدلال لا يجب قبل الشرع فاحتجوا بالشرع والعقل.
أما الشرع: فلأن الاستدلال ليس يدوم وجوبه شرعاً فإنه ساقط شرعاً عن الطفل والمجنون ومن لا يهتدى إليه لأنه ليس في وسعه فجاز كذلك السقوط حال عدم الشرع، فالهوى غالب في الإنسان وطرق الدين مختفية تحت غلبة الهوى، ومنام القلب بالغفلة عن دلائل العقل وفي تنبيهه عن نوم الغفلة بلا شرع حرج عظيم أكبر مما يحرج الصبي العاقل بسبب نقصان عقله لإدراك ما يدركه البالغ من الخطاب المسموع، وقد أخبر الله تعالى بأن لا حرج في الدين وإن الخطاب ساقط عن الصبي.