باب
حكم هذا الشرع إنما يلزمنا بعد بلوغه إيانا لما مر أن الله تعالى لم يكلف نفساً إلا وسعها، ولا وسع على العمل إلا بعد العلم فسقط أصلاً ضرب ما يحتمل النسخ لقصور الخطاب دفعاً للحرج كما سقط بالصبا.
وقد روي أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعدما حولت القبلة إلى الكعبة فأتاهم آت وهم في الصلاة فأخبرهم أن القبلة قد حولت فاستداروا كهيئتهم، ولم ينكر عليهم رسول صلى الله عليه وسلم.
وقد شرب جماعة الخمر بعد التحريم قبل العلم به فأنزل الله تعالى: {ليس على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} وهذا فل لا خلاف فيه.
ثم البلوغ نوعان: حقيقة بسماع الخطاب، وحكماً بشيوعه في قومه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتبليغ القرآن الناس كافة وما أمكنه التبليغ إلى كل نفس، وإنما بلغ أكابر كل قوم في جماعتهم، وكان مؤدياً بذلك حكم الأمر ليكون الأمر بقدر الوسع وعلى سبيل لا حرج فيه.
ولأن الخطاب متى شاع أمكن كل إنسان العمل به متى لم يقصر في طلب الحجة من قومه فمتى لم يطلب حتى جهل كان ذلك بتقصير منه فلم يصر ذلك الجهل له عذراً، وصار كأنه علم ثم لم يعمل ألا ترى أن الواحد منا لو لم يتعلم الشرائع وجهلها لم يعذر، ولزمه كلها لشيوعها في دار الإسلام.
وكذلك الذمي إذا أسلم ولم يعلم بالصلاة لزمته ولو أسلم الحربي في دار الحرب ولم يعلم بها لم يلزمه قضاء ما فات منها لأن الخطاب فيها غير شائع.
وهذا لما قال علماؤنا-رحمهم الله-فيمن أذن لعبده في التجارة وشاع إذنه، ثم حجر عليه: لم يثبت الحجر في حق أهل السوق حتى يحجر عليه حجراً عاماً في أهل سوقه، وإذا أشاعه ثبت الحجر في حق من سمع ومن لم يسمع.
ولهذا قالت الأئمة في الحربي تزوج أختين معاً، أو على التعاقب، ثم فارق إحديهما، ثم أسلم: بقي نكاح الباقية صحيحاً، وإن بقيت الأخيرة.
لأن خطاب التحريم قاصر عنهم فبقوا على الحل الثابت قبل الخطاب.