يمكننا التكلم بها، والمناظرة بها وإلزام الخصوم فنتبرأ منها إلى خالق ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وإنما الاختلاف في المعرفة بلا حجة يمكن المناظرة بها.
وأخبر الله تعالى في غير موضع أن القرآن هدى.
وكذلك الآيات لقوم: يتفكرون، يتذكرون، يعقلون، يفقهون، لوم يقل في موضع: لقوم يلهمون، ولو كان الإلهام أحد طرق العلم لبينه الله تعالى في كتابه فإنه أنزل تبيانا لطرق العلم وقال: {أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} وقال: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف} الآية.
ولو كان الإلزام بالإلهام لما عوتبوا على ترك النظر والسير وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد فيه رأيي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله" ولم يقل: بالإلهام ولم يأمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد استقصينا هذا الباب في أبواب القياس. وقال صلى الله عليه وسلم: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" وأنه جائز برأي النظر والاستدلال بأصول الدين بالإجماع.
فثبت أن المراد به الرأي بلا نظر له، ولأن الرأي بلا نظر لو كان حجة يجب العمل بها كالوحي لحل لكل إنسان قبل الوحي أن يدعو الخلق إلى ما عنده بل كما يجب على نفسه العمل به.
وكما كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ومن قال هذا فقد كفر.
ولأنا نقول له الإلهام حجة على الحق بخلاف الشرع أم بموافقته، فإن قال بخلافه كفر، وإن قال بموافقته فلا تثبت الموافقة إلا بعد النظر في أصول الشرع، والاستدلال كما يكون بالقياس.
ولأنا نقول: إن هذا الإبهام قد يكون من الله تعالى، وقد يكون من الملك، وقد يكون من إبليس على ما قال الله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم}، ومن نفسه على ما قال: {ونعلم ما توسوس به نفسه}، ولن يقع التمييز بينهما إلا بعد نظر واستدلال بأصول الدين.
ولأنا نقول: لو سلمنا أن الإلهام ثابت بمنزلة الوحي فبماذا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أنه موحى إليه، وأن ما تراءى له وحي من الله تعالى وبماذا يلزم الناس إتباعه فلا يجد فيمن مضى وظهر منهم إلا بحجة وآية ظهرت للنبي صلى الله عليه وسلم في نفسه عرف بها أنه من الله تعالى، وإنما عرف هذه الآية أية بنظره واستدلاله.