فأما براءة الذمة للمنكر فهو الحق المقصود للمنكر، وقد ثبت بدليله فاستقام إبقاؤها بلا دليل، وهذا كما إذا ثبت الدار ملكًا لإنسان بشراء أقر به المشتري للشفيع ثم أنكر البقاء للحال، وامتنع عن التسليم بالشفعة لم يلتفت إليه لأن الملك ثبت بدليله فبقي حجة للشفيع على المشتري عند عدم يزيله.
والجواب عنه: أن المقصود من الإنكار إذا جاء الصلح عن الدين فساد الصلح وإنه غير ثابت بدليله.
فأما الشفعة فلا تلزم لأن الشفعة من حقوق الملك كالثمرة من حقوق ملك الشجرة، وعند الاحتمال تبقى صفة الملك كما كان في حقه، فكذلك في حقوقه لأنها تبعة.
والذي دل على صحة ما قلنا: أن المدعي بالدعوى يستحق حضور الخصم للجواب ولا يبطل هذا الحق بالإنكار، فإنه لو أنكر مرة ثم غاب، فادعى ثانيًا استحضر ثانيًا فثبت أن الإنكار لا يكون حجة على الخصم حتى يقرنه بدليله، وهو اليمين كالدعوى.
ويدل عليه قوله تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى} إلى قوله: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فطولبوا بالدليل على نفي الدخول ولم يكتف منهم بعدم الدليل على الاستحقاق، فعلم أن لا دليل ليست بحجة على النفي.
فإن قيل: الأصل في الناس استحقاق الجنة وكان الحرمان حادثًا!
قلنا: لا كذلك فالجنة خلقت جزاء العمل، ولا تكون حقًا ابتداء كالدنيا، ثم لم يكن لا دليل حجة على عدم الاستحقاق، وأما الجواب عن إنكار النبوة، فإن ذلك الإنكار ما كان يصير حجة على الأنبياء صلوات الله عليهم بل كان عذرًا لجهلهم بالنبوة قبل الدليل عليها، والله أعلم.