وأما الاحتمال فنعم ثابت، ولكن لما ثبت الوصف علة بدلائل صحة القياس لم يبطل بالاحتمال كما لا يثبت ابتداء بالاحتمال.
وأما الفريق الثالث: فيقول إن الدلائل الموجبة للقياس على النص جعلت النص معلولًا ليمكن القياس، ولا قياس إلا بتعليل، والإمكان يثبت بوصف من الجملة فلا يجب بتلك الدلائل أن يجعل كل وصف علة بل صار البعض من الجملة علة.
واحتمل الزيادة على الواحد، فلا تثبت الزيادة على الواحد إلا بدليل.
وهذا الواحد مجهول من بين الجملة فلا يمكن العمل به حتى يمتاز عن الكل، ولا يثبت الامتياز إلا بدليل.
وأما علماؤنا فإنهم ذهبوا إلى أنه لا بد من دليل يميز الوصف الذي هو علة عن غيره كما قال الشافعي رحمه الله.
وسنذكر شرح ذلك في باب: صيرورة الوصف علة يجب العمل بها بعد هذا الباب.
وقبل هذا الدليل نحتاج إلى دليل يدل على كون الأصل شاهدًا يعمل بشهادته، لأن الأصول وإن كانت معلولة في الأصل بالدلائل الموجبة للقياس فقد احتمل واحد بعينه من الجملة أن لا يكون معلولًا فبالإجماع نصوص من بين النصوص غير معلولة، فلم يخرج في نفسه من أن يكون شاهدًا بالاحتمال بعدما صار الأصل للشهادة.
ولكن لا يبقى حجة على غيره، وهو الفرع مع قيام الاحتمال حتى يقوم دليل يدل على كونه شاهدًا للحال كالرجل المجهول الحال إذا شهد قبلت شهادته.
وإذا طعن الخصم في حريته لم يصر حجة عليه بكونه حرًا في الأصل، إلا بدليل يوجب حريته للحال في حقه لأنه احتمل التغيير بعارض، فلم تبطل حريته في نفسه بالاحتمال، ولم يبق حجة على غيره مع الاحتمال على ما بينا في باب استصحاب الحال؛ أن الاستشهاد بأصل ثابت احتمل التغير لا يكون حجة ملزمة، وإنما يكون حجة دافعة.
فإن قيل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قدوة أمته فيما كان له وعليه، وقد احتمل أن يكون مخصوصًا كما ظهر في أحكام، ومع ذلك كان حجة على غيره؟
قلنا: إن الحجة لوجوب الاقتداء به كونه نبيًا، وما اختلف الحال في كونه مقتدى به، والخصوص من ثبت بدليله في بعض أفعاله وأحكامه فيبقى في الباقي على عمومه كالنص العام إذا خص منه شيء ولم ينسخ ولا احتمله، فإن الباقي يبقى على عمومه فأما فيما نحن فيه فالنص المعلول هو الشاهد بعلته فاحتمل في نفسه أن لا يكون معلولًا بعارض كالشاهد هو الحجة بشهادته، فاحتمل أن لا يكون حجة بعارض رق فيصير احتمالًا في نفس ما هو حجة، وفي الفصل الأول كان الاحتمال في العمل بما ثبت حجة.