وأما المطلق عن الوقت فلأن المشروع بالشرع هي الأسباب. والأحكام وجبت بناء عليها لما ذكرنا في أول الكتاب في باب بيان أسباب الشرائع, فكان حكم الجعل الذي هو شرع أن تصير تلك الأسباب أسبابًا موجبة.
ولا يجوز أن يرد النسخ على أنها لم تكن أسبابًا, وإنما يرد على البقاء سببًا. لأن البقاء كذلك سببًا لم يثبت بنص على البقاء والنص الجاعل سببًا لا يوجب البقاء كالأمر الذي أوجب كون العالم ما أوجب البقاء.
وكالإحياء الذي أوجب حياة الأرض بالنبات, وحياتنا بالقدرة على الأفعال الاختيارية لم يوجب البقاء.
وكالبيع الذي يوجب الملك لا يوجب البقاء.
ولما لم يجب البقاء بما شرعها أسبابًا لم يكن رفع البقاء تعرضًا لما وجب بالأول بل كان بياتًا لمدة البقاء التي كانت محتملة للتوقت والتأبد كإماتة الأحياء.
وإفناء العالم يوم القيامة يكون بيانًا لمدة البقاء الثابتة بحكم الله تعالى لما خلقها لعباده, فثبت أن النسخ بيان لمدة البقاء التي كانت مجهولة في حقنا ولم تكن ثابتة بالنص.
ثم الحكم بعده يرتفع لزوال سببه كما لا يبقى صوم بمجيء الليل لانتهاء الصوم بالليل.
وكذلك جعل الموت سببًا لحرمة ما يؤكل ثم حرمت الميتة بوجود سببه ثم بقاء الموت سببًا لذلك ليس بالنص بل لعدم ما يزيله كبقاء الملك في المبيع بعد الشراء.
وكبقاء الدين واجبًا على العبد بعد سبب الإيجاب عليه.
وهذا لأن الله تعالى ابتلانا بما شرع لصلاح لنا فيه إما عاجلًا وإما آجلًا, أو لحكمة علم الله تعالى فيها.
ثم تلك الحكمة والصلاح مما يختلف باختلاف الأزمنة والقرون فحسن التبديل فيما احتمل التبدل والتوقت بتبدل الحال كالطبيب يأمر المريض بغذاء أو دواء ثم يأمره بغيره بعد حين إذا تبدل حاله بلا غلط ولا مناقضة.
وعلى هذا يجب أن يقال: أن الله تعالى إذا أمر بأمر وجعل المأمور به حسنًا منا فعله غير معلق بشرط أن لا يرد عليه نسخ بعينه بحال, لأنه بعينه متى صار حسنًا بالنص لم يجز أن يكون قبيحًا, وهو شيء واحد إلا بغلط من المخبر, وفي النسخ إثبات قبح.
فإن قيل: إن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده ثم نسخه, وكان ذبحًا واحدًا ما كان يبقى بعد الامتثال به فثبت أن النسخ فيه جائز والدليل على أنه نسخ أن الذبح بعد الفداء حرم في الولد.