لأنا لو لم نجعل هكذا نسخنا الأصل، ثم نسخنا الرافع بما أعاد حكم الأصل ولا يصار إلى النسخ ما أمكن نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح الضب، وروي أنه كرهه وروي أنه أباح الضبع وروي أنه نهى عنه، فكان التحريم أولى.
ولأن المحرم بالإجماع ناسخ والآخر احتمل أن يكون ناسخًا لو تأخر وأن لا يكون لو تقدم فلم يقابل المحتمل المحكم فإن لم يكن قامت المعارضة وإن كانت إحدى الحجتين نافية والأخرى مثبتة، ويحكى هذا القول عن عيسى بن أبان، وعن أبي الحسن الكرخي أن المثبت أولى.
وقد ذكر محمد بن الحسن رحمه الله في كتاب "الاستحسان" في ماءٍ أخبره مخبره بنجاسته والآخر بطهارته، ولم يترجح قول أحدهما على الآخر في رأي السامع. فقال: إنهما يتساقطان، ويبقى الماء على ما كان قبل الخبرين والنجاسة إثبات حكم جديد.
وعن ابن عمر وابن عباس أنهما سألا عن الفجر فاختلف رجلان فقال أحدهما: طلع، وقال الآخر: لم يطلع فشرب الماء.
وفرع محمد بن الحسن في كتاب "الاستحسان" إذا كان المخبر بأحد الخبرين اثنين عدلين، ومن الجانب الآخر واحد، قال: خبر الاثنين أولى وإن كان من جانب عبدين، ومن جانب حرين فالحران أولى فرجح بمعاني في الحجة لا بالحكم، وهذا لأن الخبر حجة في النفي كما في الإثبات بخلاف الشهادات.
فإن قيل: خبر المثبت أصدق!
قلنا: لا كذلك فإن طهارة الماء تعرف يقينًا كنجاسته باغتراف الماء من وادٍ جارٍ في آنية طاهرة وحفظها كذلك عن النجاسات.
ومثال ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حرام، وروي أنه تزوجها وهو حلال، ولا يرجح الحلال بكونه طارئًا فإنهم أجمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تزوجها قبل الإحرام وإنما تزوجها بعد الإحرام.
واختلفوا في أنه تزوجها قبل أن يحل أو بعدما حل.
والذي يروي الحل روى أمرًا طارئًا ولم نره ترجيحًا وقد اجتمعا في حادثة واحدة، بل رجحنا الحرام لأن رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو أثبت من يزيد بن الأصم راوي الحلال.
وروي أن بريرة أعتقت وزوجها عبد، وروي: وزوجها حر، وزوج بريرة كان عبدًا ثم أعتق فكانت الحرية طارئة وأخذ بها علماؤنا رحمهم الله فثبت أنهم طلبوا الترجيح من وجوه أخر لا بالطريان واستصحاب الحال.