وأما القياسان فيتعارضان على طريق أن كل واحد منهما صحيح العمل به لأنه جعل حجة يعمل به أصاب المجتهد به الحق عند الله تعالى أو أخطأه، ولما كان كل واحد منهما حجة لم يسقط وجوب العمل، ولكن الحكم عند الله واحد فثبت له تحري الذي الحق عند الله معه لأنه أولى من الآخر لا محالة فإذا تحرى وعمل به، وجعل التحري حجة له ضرورة صار الذي عمل به هو الحق عند الله تعالى بدليل التحري والآخر خطأ فلا يجوز نقضه إلا بدليل فوق التحري.
ومثاله في مسائل الفقه: رجل طلق إحدى امرأتيه فإن له خيار التعيين لأن التطليق كان حقه، وكذلك تعيين المطلقة فإذا لم يعين بقي التعيين ملكًا له فإذا عين لم يبق له الرجوع.
ولو طلق إحديهما بعينها ثم نسيها لم يكن له خيار بالجهل لأن ما كان له خرج من ملكه إلا أنه جهل المحرمة فلم يثبت له خيار شرعي بالجهل.
فإن قيل: لما كان كل واحد من القياسين حجة يجوز العمل به وجب أن يثبت خيار التعيين مطلقًا، لا لضرورة الجهالة فإنه لا جهالة لما صار كل واحد منهما حجة، ألا ترى أن الخيار لما ثبت في تعيين كفارة اليمين لثبوت كل نوع مشروعًا كفارة ثبت مطلقًا ولم يرتفع بتعيين العبد نوعًا مرة.
قلنا: إن القياسين ليسا بحجة في حق ما عند الله تعالى فإن الحق عند الله واحد على ما نذكر، ولكن جعلا حجة في حق جواز العمل لنا بالقياس أخطأنا أو أصبنا لفقد الدليل الذي هو فوقه، والذي هو حق عند الله فوق الذي ليس بحق ولا دليل معه للتمييز إلا التحري بقلبه فأمر بتعيينه بدليل التحري وللقلب فراسة، ونظر بنور الله تعالى على ما جاءت به الأخبار فإذا عين تعين وبقي الآخر خطأ ما لم يتبين خطاؤه بدليل آخر فوق التحري.
قال علماؤنا فيمن أدرك الظهر ومعه ثوبان أحدهما نجس ولا يدريه: أنه يتحرى ويصلي في أحدهما الظهر فيجوز فإن صلى العصر في الآخر لا يجوز حملًا على أنه نجس لأن كل ثوب منهما حال وجوب الظهر مما تجوز الصلاة فيه لوجوب الصلاة وما عنده ثوب طاهر يقينًا وحكم النجاسة سقط بالعجز، والذي هو طاهر منهما هو الحق في الأصل ولا دليل معه عليه غير التحري بقلبه فأمر به فإذا تحراه جعل طاهرًا بدليله فبقي الآخر نجسًا، ولم يتبدل إلا بدليل آخر فوق التحري.
وقولا الصحابة مثل القياسين لأنهما يقولان عن الرأي، ولا يجوز العدول بالرأي عن قولهما جميعًا- على ما نذكر- فحلا محل القياسين اللذين لا حجة بعدهما، والله أعلم.