واحد منهما إلا أنه جوز لنا العمل بما نصيب به الحق عند الله وبما لا نصيب بحكم العجز على ما بينا في باب الاجتهاد فصار أحد القياسين حجة يقينًا، والآخر حجة ظاهرًا في حق جواز العمل به تيسيرًا علينا لا فيما عند الله تعالى فيصير الأول أولى ومتى لم نعلم جاءت المعارضة.
فأما الحكم: فإن كان التعارض بين الآيتين فالميل إلى السنة وإن كان بين السنتين فالميل إلى أقوال الصحابة ثم إلى الرأي لأن التعارض بين الحجتين متى ثبت تساقطا لاندفاع كل واحدة بالأخرى وامتنع العمل بهما، وبأحديهما عينًا لأنها ليست بأولى من الأخرى، فإذا تساقطتا وجب المصير إلى ما بعدهما من الحجة والحجج شرعت على هذا الترتيب.
وأما التعارض: إذا ثبت بين القياسين، فكذا كان يجب أن يتساقطا ويتوقف عن العمل إلا أنه قيل: يعمل المجتهد بأيهما شاء ثم لا يكون له العمل بالآخر إلا بفساد يظهر في الذي عمل به بضرب دليل لأنه اضطر إلى العمل بحكم الحادثة الواقعة، ولا يمكنه إلا بدليل، ولم يشرع الله لنا دليلًا بعد القياس إلا الحال، وأحد القياسين معه الحق عند الله تعالى لا محالة، وحجة يقينًا فكان العمل بأحدهما على احتمال أنه الحجة حقيقة أولى من العمل بالحال، فإنه عمل بلا دليل فجاز له العمل بالمحتمل لهذه الضرورة ولما اندفعت الضرورة به وجعل عمله بما عين صوابًا لم يجز العمل بالآخر إلا بدليل غير محتمل.
ومثاله ما قال علماؤنا رحمهم الله: في إنائين ماء أحديهما نجس، والآخر طاهر فأشكل الأمر علينا فإنه لا يجوز استعمال ماء أحديهما بالتحري لطهارة الصلاة، ويجوز للشرب لأن التراب طهور بيقين خلفًا عن الماء في حق الصلاة فوجب الميل إليه عند التعارض بين الماءين، ولا خلف للماء في حق الشرب فجاز تعيين أحديهما للشرب مع الاحتمال.
وقال علماؤنا في سؤر الحمار: أنه مشكل لتعارض الأدلة، فقالوا: لا ينجس العضو الطاهر باستعماله، ولا يرتفع به الحدث للصلاة لأنه مشكل في نفسه فلا يزول به ما كان ثابتًا قبله من نجاسة أو طهارة، ولم يجوز تعيين أحد الحكمين بلا دليل ولا ضرورة فإنها ارتفعت بهذا التقسيم.
وكذلك قالوا في الخنثى: أنه مشكل أمرها ما لم تترجح إحدى حالتيها بدليل، ومتى لم يتبين لم تترجح بلا دليل بل رد إلى الرجل من بعض الأحكام وإلى المرأة في البعض على حسب الثبوت يقينًا.
ووجه آخر أن النصين لا يتعارضان إلا والأول منهما منسوخ إلا أنا جهلناه، والجهل لا يطلق عملًا شرعيًا والاختيار عمل شرعي.