وكذلك أصحاب التصانيف ما يضيق كتابنا عن ذكرها ونحن سكتنا عنها اختصاراً واكتفاء بما فعل الناس وتقرر في قلوبهم، ولعلمنا ان خصومنا متعنتون، وانهم منكرون كل ذلك فاشتغلنا بما لا يمكنهم الإنكار من الأمور التي هي على مثال المحسوسات دل عليه ما بينا بإجماع الصحابة، وبنص الكتاب أن القياس حجة وأنه دون خبر الواحد.
فإن قيل: قال محمد بن الحسن رحمه الله في كتاب "الاستحسان": إذا تزوج الرجل امرأة فأخبرته امرأة عدل أنها أرضعتهما لم تحرم عليه.
قلنا: لأن هذه الحرمة لا تثبت إلا بزوال ملك الزوج، وخبر الواحد ليس بحجة في حقوق الناس، إزالة وإثباتاً، ولهذا لم تفصل المنازعات الجارية بين العباد في حقوقهم بالإخبار.
لأن أصل المنازعة لا يثبت فيما بينهما لهما إلا بحقهما حتى يكون شهادة أو يميناً، ففي اليمين زيادة صدق للخبر لا توجبه عدالة المخبر.
وكذلك في لفظ الشهادة ثم قصر العدد على أربع وشاهدين، وواحدة في باب النساء أمر عرف شرعاً لا لعلة معقولة، إذ لو كانت معقولة لما اختلف العدد، ولما اختلفت، وقبلت شهادة القابلة وحدها وكانت حجة، وقبلت شهادة خزيمة وحدها، علم ان زيادة العدد ليست لإفادة أصل العلم بل لحكمة اختص الله تعالى بعلمها فلم نقس عليها سائر الأخبار التي ليست من قبيل تلك المنازعة.
ويحتمل أن يقال: إن المنازعات في حقوق الناس تجري بينهم لهواء أنفسهم فتكون أشد من باب الديانات فغلظ بتخصيص اللفظ الدال على الوكادة من الحلف والشهادة، وكذلك زيادة العدد، والله أعلم.