باليمين مما يخاف على نفسه فعله، وذلك في نفس شرب الماء لا جميعه فانصرف إليه بدلالة الحال إلا أن ينوي الجميع فيصدق لأنه حقيقة، ولو كان مجازاً لما صدق في القضاء كما إذا نوى التخصيص فيما هو عام، هذا جواب عامة الشيوخ.
قال القاضي أبو زيد رضي الله عنه: والذي يصح عندي أن اسم الجنس عام ولكنه يتناول بحقيقة أدنى ما ينطلق عليه الاسم كما يتناول الكل بحقيقته، لأن القطرة من الماء صالحة لكونها كلاً فإن المياه لو انعدمت كانت القطرة كلاً وكان الاسم لها حقيقة، وكذلك الإنس يعم جنس بني آدم، وكان الاسم لآدم حين لم يكن إلا هو حقيقة، وكان كل الجنس فثبت أن البعض من الجنس صالح في ذاته لهذا الاسم حقيقة، وإنما صار بعضاً بمزاحمة أمثاله لا بنقصان في نفسه، وإذا كان كذلك ساوى البعض الكل في الدخول تحت الاسم فتأدى به حكم الكل إلا بدليل يرجح حقيقة الكل على الأدنى كقولنا: دراهم اسم للثلاثة حقيقة وللألف.
ولهذا قالوا- فيمن قال لامرأته: أنت طالق الطلاق، أو أنت الطلاق ونوى الوقوع-: أنها تطلق واحدة إلا أن يعني ثلاثا ًلأن الألف واللام لبيان الجنس فقام الأدنى مقام الكل في تأدي حكم الخطاب به إلا أن ينوي الكل، وإن أمكن تعليق الحكم بالكل فإنه معلوم ممكن فثبت أن العذر في الماء ليس ما قالوه ولكن ما قلناه، والله أعلم.
وأما كلمة"من" و"ما": فمن عامة فيمن يعقل لأنك إن قلت: من في الدار؟ استقام الجواب بكل من يعقل، ولا يستقيم الجواب عنه بالشاة والدابة، واستقام الجواب عنها بالواحد والجماعة فكانت بمنزلة اسم الجنس.
وإذا قلت: ما في الدار لم يستقم الجواب عنها بالعاقل ولكن بما لا يعقل ألا ترى أن فرعون لما قال لموسى عليه السلام: {وما رب العالمين} فأجاب موسى {رب السموات والأرض}، قال فرعون: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} لأني سألته عن المائية، وهو يجبني عن المنية فما يتناول ما لا يعقل فيكون سؤالاً عن أصل الشيء أنه جوهر أو عرض، ولكن لما تعالى الله عن المائية أعرض موسى عن سؤاله فإن من شأن الحكيم إذا سمع اللغو أن يعرض عنه، قال الله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} لأن الكلام كان جواباً، ولكن بيان أنهم أعرضوا عن اللغو وتحقيق الإعراض بذكر كلام مبتدأ مفيد، فكذلك موسى أعرض عن جواب سؤاله لأنه كان لغواً، وحقق الإعراض بذكر كلام مبتدأ مفيد وهو أن الله تعالى لا يصير معلوماً بذكر المائية فقد تعالى الله عنها ما هو بجوهر ولا عرض، ولكن يصير معلوماً بصفاته وأسمائه التي تعالى الله بها عن جنس المدبرين والحكماء ممن لهم عقل وتمييز على أن ما يقام مقام "من" مجازاً، وإنما الحد الذي قلناه للحقيقة.