لما كان غير مكفي بتفرده بقاؤه أدنى مدة، فإن أول ما يحتاج الإنسان إليه ما يواريه وما يغذوه، وليس يجد ما يواريه مصنوعاً، ولا ما يغذوه مطبوخاً، كما يكون لكثير من الحيوانات بل هو مضطر إلى اصلاحهما، واصلاحُ ذلك يحوجه إلى آلاتٍ غير مفروغ منها، والإنسان الواحد لا توصل له إلى إعداد جميع ما يحتاج إليه ليعيش العيشة الحميدة، فلم يكن بُدُّ الناس من تشارك وتعاون، فجعل لكل قوم صنعة وهيئة مفارقة للصنعة الأخرى ليقتسموا الصناعات بينهم، فيتولى كلٌّ منهم صنفاً من الصناعات فيتعاطاه باهتزاز، كما قال الله تعالى: (فتقطعوا أمرهم بينهم زُبراً كلُّ حزب بما لديهم فرحون) . فاقتضت الحكمة أن تختلف جثثهم وقواهم وهممهم، فيكون كلٌّ ميسرٌّ لما خلق له. وقال تعالى: (قل كلٌّ يعمل على شاكلته) . فتكون معايشهم مقتسمة بينهم، كما نبه الله عليه بالآيات المتقدمة. وقال تعالى: (ولو شاءَ ربك لجعل الناس أُمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) . والاختلاف الحاصل بيِّنٌ. فالناس إذا اعتبر اختلاف أغراضهم وهممهم فهم في صناعاتهم في حكم المسخرين وإن كانوا في الظاهر مختارين. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يتعلق من المصلحة بتباينهم واختلاف طبقاتهم فقال: " لا يزالُ الناس بخيرٍ ما تباينوا فإذا تساووا وهلكوا ".