أما الأول: وهو تحريم إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا: فقد تضمنه قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) إذ بينت هذه الآية الكريمة تحريم إشاعة الفاحشة بين أهل الإيمان، وللعلماء في هذه الآية الكريمة وجهان: الوجه الأول: أن المراد بها طائفة مخصوصة، أو قوم مخصوصون، وهم الذين تكلموا في حادثة الإفك، أي: أراد الله تبارك وتعالى بهذه الآية الكريمة أن يزيد في تقريع المنافقين، وأولئك المؤمنين الذين تبعوا أهل النفاق في حكاية ما قالوه من الطعن في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، واتهامها بالزنا، فوصفهم الله تبارك وتعالى بهذه الصفة أنهم قوم يحبون أن تشيع الفاحشة أي: نسبة أهل الإيمان إلى فعل الزنا والعياذ بالله، وأنهم يحبون ذلك؛ لكونهم يبغضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لضعف إيمانٍ أوجب لهم الوقوع في هذا الأمر العظيم.
وبناءً على هذا الوجه فإن قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) .
يراد بقوله (الْفَاحِشَةُ) : شيءٌ مخصوص وهو: التهمة بالزنا.
وقوله (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أي: بنسبة عائشة رضي الله عنها وصفوان بن المعطِِّل رضي الله عنه إلى الزنا زوراً وبهتاناً.
(يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ) فوصفهم الله تبارك وتعالى بأنهم قوم يحبون ويرضون بإشاعة الفاحشة بين أهل الإيمان.
أما الوجه الثاني عند العلماء: أن المراد من هذه الآية العموم، أي: أن الله تبارك وتعالى أراد أن يؤدب أهل الإيمان بها، فلا يكون المؤمن ناقلاً لحديث الفاحشة، مشيعاً له بين الناس دون تَرَوٍّ ولا تَثَبُّتٍ ولا تَتَبُّعٍ لحقيقة الأمر الذي يقوله.
وبناءً على هذا الوجه الثاني يكون قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) أراد الله منه أن يبين طائفة من الناس ابتُليت بهذا المرض والعياذ بالله، وهو نقل الأحاديث القبيحة بين الناس.
ويكون قوله: (يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) يقال: شاع الخبر يشيع شيوعاً إذا ذاع وانتشر أي: يحبون أن تذيع الفاحشة وتنتشر بين أهل الإيمان، وهذا من أبغض الصفات، ذلك أن الفاحشة إذا سُتِرت ولم تتعد موضعها، ووئدت في مهدها بأن اقتصرت على الشخص الذي فعلها، وسُتِر إن كان الله ستره، فإن ذلك أدعى لصيانة المجتمع؛ ولكن إذا انتشر بين الناس ذكر الفواحش والكلام القبيح، ونسبة الناس إلى الأمور القبيحة فإن ذلك والعياذ بالله مظنة لفتنة الناس، وصدهم عن التخلق بالأخلاق الفاضلة.
وبناءً على هذا الوجه الثاني تكون هذه الآية الكريمة جاءت بقصد تأديب عباد الله المؤمنين حتى يحفظ كل واحد منهم لسانَه فلا يتكلم بالأمر القبيح ولا يشيعه بين الناس، ولذلك كان من علامة المؤمن الصادق في إيمانه أنه لا يحب سماع الفحش ولا ينقل ذلك القول الفاحش، ولذلك قالوا: مَن نَقَل الفاحشة فهو أفحش، أي: إذا رضي بها واعتنى بنشرها بين الناس، والغالب أنك إذا رأيت الرجل الذي يحرص على نشر الفاحشة بين الناس أن تجده متخلقاً بصفتين: إحداهما: ضعف إيمانه والعياذ بالله، ونقص خوفه من الله تبارك وتعالى.
والصفة الثانية: نقص عقله.
ولذلك تجد نقلة الأحاديث الذين يعتنون بإشاعة الفاحشة والأخبار السيئة بين المؤمنين يتخلقون بالصفتين والعياذ بالله.
أما أهل الإيمان فهم أعف الناس لساناً، وأثبتهم في طاعة الله جَناناً، تشاع الفاحشة فيحسنون الظن بعباد الله، ويدفعون التهمة عن أولياء الله، وهم أطهر وأعف ألسنةً مِن تهمة الناس، يحبون للمسلمين ما يحبون لأنفسهم، ويكرهون لأهل الإيمان ما يكرهون لأنفسهم، ولذلك كان مِن وصية السلف الصالح رحمهم الله: أنه لا ينبغي إشاعة الحوادث التي فيها فُحش وأمرٌ قبيح؛ لأن ذلك وَهَن في المجتمع وضعف فيه، ولذلك ورد عن سفيان الثوري رحمه الله قوله: إنه لا ينبغي للمؤمن إذا سمع الأمر القبيح أن يكون ناقلاً له لأن ذلك ثلمةٌ في الإسلام، فإذا وقعت الفاحشة بين أهل الإيمان، واعتُني بنشرها ونقلها وإذاعتها كان ذلك أدعى أن يجترئ أهل الفسق على الفسق حتى يقول القائل: إنني سأفعل كما فعل فلان، ولكن إذا كان الناس أبعد عن إشاعة هذه الأخبار الخبيثة وهذه الأمور القبيحة كان ذلك أدعى للحشمة والعفة، وليس معنى ذلك السَّتْرُ على أهل الفسوق والفجور، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية رضي الله عنه أنه قام في الناس خطيباً فقال (ألا تَرْعَوُون؟! اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس) .
فاستثنى أهلُ العلم رحمهم الله أن يكون الرجل مجاهراً بفسقه، فمثل هذا تُشاع شنيعته وتُفضح قبيحته، حتى يكون ذلك أدعى لبُعد الناس عن هواه، ومجانبتهم لفاحشته وطغيانه واعتدائه لحدود ربه، ولذلك إذا شُهِّر بالفاسق المجاهر بفسقه كان ذلك أدعى لكف الناس أو انكفاف غيره عن فحشه.
فالمقصود أن النهي عن إشاعة الفاحشة مقيد بأحوال، كما سبق في النص الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) انظر رحمك الله كيف أخبر الله عز وجل أن مجرد محبة إشاعة الفاحشة بين المؤمنين توجب عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فكيف بمن فعل؟! وكيف بمن نشر؟! وكيف بمن دعا وسهَّل؟! وللعلماء في هذه الآية الكريمة -بناءً على الوجه الثاني- وجه آخر؛ وهو: أن إشاعة الفاحشة المراد بها أن يدعو الإنسان غيره إلى الفاحشة، فيحب أن يصبح المجتمع والعياذ بالله مجتمعاً فاسقاً، لا يرعى ديناً ولا حرمةً من حرمات ربه والعياذ بالله.
وعلى هذا يكون قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ) المراد منه تحذير المسلم أن يقول قولاً أو يفعل فعلاً يدعو غيره به إلى فعل الفاحشة، كما يفعل أهل الفسوق والفجور والعياذ بالله، فأخبر الله تبارك وتعالى أن مَن دعا إلى الفحش أنه سيذيقه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وعْداً مِن الله مفعولاً.
ولذلك حذر العلماء رحمهم الله عند الكلام على الآداب والأخلاق -كما هو منهج الشريعة- من أن الإنسان يَسُنُّ السُّنَّة القبيحة التي تفضي بوقوع غيره والعياذ بالله في الفحشاء والمنكر، ولقد بين بعض العلماء أن الدعوة إلى الفاحشة تكون باللسان، وتكون كذلك بالجوارح والأركان والعياذ بالله الرحمن، فقالوا: إن الإنسان قد يدعو غيره إلى الفاحشة بلسانه، ولذلك قالوا: لو أن إنساناً أشاع الفاحشة في قوم فإنه يلقى الله بآثامهم، فعلى سبيل المثال: الرجل يأخذ الشباب والصبية الصغار في السن يسهِّل لهم السبيل لحدود الله، ويحببهم في فعل معاصي الله، فهذا يعتبر من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وصاحبه موعود بعذاب الدنيا والآخرة والعياذ بالله! ولذلك قرر بعض العلماء رحمهم الله أن الإنسان إذا دعا إلى الفاحشة بلسانه فسهل سبيلها لغيره كأن يدعوه إلى الزنا أو إلى شرب الخمر أو غير ذلك من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فإنه لن يفعل تلك الفواحش أحد، ولن يتأثر مخلوق بمقاله إلا لقي الله بوزره وإثمه، ولذلك قال الله عز وجل في الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] قال بعض العلماء: لِمَا في الشعر من مفاتن الغزل التي تدعو إلى تعدي حدود الله وانتهاك محارمه، فأخبر الله تبارك وتعالى أنهم بهذا الصنيع قد غَوَوا وضلوا وأضلوا والعياذ بالله.
فالمقصود: أن الإنسان قد يدعو إلى الفاحشة بلسانه وبأفعاله، فالمرأة إذا خرجت على عفة وصيانة ملبسها ولم تكن حافظةً لحدود الله في قيلها وكلامها، فإنها داعيةٌ إلى الفحشاء بقولها وفعلها، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] .
فالمقصود: أن الإسلام يراعي كفَّ أبواب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن هذه الآية الكريمة سواءً قلنا: إنها نزلت في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وصفوان بن المعطل رضي الله عنه وأرضاه، أو قلنا: إن المراد بها العموم، فإن المقصود منها والعبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فعموم لفظها: يشمل كل مَن دعا إلى الفاحشة، فكل مَن تكلم عليه أن يراقب الله في كلامه، وأن لا يتكلم بالحديث الذي يدعو إلى الفحش والعهر، أو يسهل السبيل للفاحشة وانتهاك حدود الله عز وجل، وكم مِن متكلم تكلم بكلمة وقعت في قلوبٍ أغوتها عن سبيل الله، وحببت لها معاصي الله عز وجل، وانتهاك حدود الله ومحارمه.
نسأل الله السلامة والعافية.
فالمقصود: أنه ينبغي على المسلم أن يصون لسانه، وأن يحفظ جوارحه وأركانه عن أن يقول أو يفعل ما يدعو إلى الفاحشة، ولذلك نهى الله عز وجل المؤمنة أن تضرب برجلها ليُعْلَم ما تخفي من زينتها؛ لأنها إذا ضربت بقدمها على هذا الوجه التفتت الأنظار إليها، فكان ذلك أدعى للفتنة، ومِن ثم يعتبر هذا من قفل الأبواب المفضية إلى الفحشاء، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة أن تمر على القوم فيجدوا ريحها، وأنها إذا فعلت ذلك فهي زانية والعياذ بالله، أي: زانيةٌ باعتبارٍ، أو زانيةٌ مِن وجه، ذلك أنها إذا تعطرت وأحسنت ذلك في ثيابها، وشُعِر به أثناء مرورها بالناس دَعَت إلى النظر والفتنة بها، فكان ذلك دعوة إلى الفحشاء وهي فاحشة النظر.
فالفحش كما يقع بالأفعال المتعلقة بالفروج من الشهوات يقع أيضاً باللسان والسمع والبصر.
ولذلك حذر الله تبارك وتعالى من محبة إشاعة الفاحشة.
والذي نستفيده من هذا الأمر الأول الموجود في هذه الآية الكريمة: - أنه ينبغي لكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكره الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن لا يحبها، ولا يحب أن تشيع في الذين آمنوا.
- وأما الأمر الثاني: فالخوف من هذه الخصلة المذمومة والبعد عنها بأن يحفظ الإنسان لسانه، فلا يشيع ولا يذيع بين الناس أن فلاناً فعل، وأنه ينبغي علينا إذا سمعنا أن رجلاً وقع في فاحشةٍِ ما، ألا نعجل في اتهامه بذلك، وأن نستثبت، ولو تثبت الإنسان وأمكنه أن يستر حتى يعين ال