أما الأمر الثاني: قوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] : فهذا المقطع من الآية الكريمة دل على أن من أحب انتشار الفاحشة في المؤمنين أن الله عز وجل يعاقبه في الدنيا والآخرة، وللعلماء في هذه الآية وجهان، كلاهما مركبان على ما سبق في صدر الآية الكريمة عند بيان الأمر الأول، وهما: - أن الآية إما أن يراد بها الخصوص أي: قَذَفَة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فنقول: إن قوله تعالى: (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) المراد منه أن من قذف أم المؤمنين عائشة وصفوان بن المعطل رضي الله عن الجميع فإن الله سيعذبه في الدنيا والآخرة، أما عذاب الدنيا: فحد القذف الذي أقامه النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عذاب الآخرة: فلأن الإنسان إذا قذف غيره ولم يتب إلى الله فإن الله سيعذبه في الآخرة، نسأل الله السلامة والعافية، ولذلك سيأتي في الآيات الكريمة التالية بيان أن الله عز وجل يعذبهم في الآخرة بعذابين عظيمين: أما العذاب الأول: فهو أن يفضحهم كما فضحوا أولياءه، ويشهِّر بهم على رءوس الأشهاد أمام الأولين والآخرين، فيقيمهم في عرصات يوم الدين، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88] فتشهد عليهم الألسنة بأنهم كذبوا على عباد الله، واتهموا أولياء الله، وأنهم أشاعوا الفاحشة بين عباد الله، وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما سعوا به في ذلك.
فلذلك أخبر الله عز وجل عن هذا العذاب الأول، ثم أخبر عن العذاب الثاني وهو: عذاب النار وبئس القرار، نسأل الله عز وجل أن يعيذنا من ذلك، وأن يرزقنا عفة اللسان عن عباده وخلقه، والأدب في نقل الحديث عنهم وترويج الأخبار عنهم، فالمقصود: أن هذا المقطع الثاني من الآية الكريمة إن كان المراد مِن صدرها أم المؤمنين وصفوان بن المعطل، فالمراد بقوله: (عَذَابٌ أَلِيْمٌ) أي: حد القذف في الدنيا، وعذاب الآخرة بعذاب النار والفضيحة أمام الأشهاد؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فمن فضح عباد الله وتتبع عورات المسلمين وشهَّر بهم بالزور والبهتان، كان حقاً على الله عز وجل أن يعامله بما فعل، فكما شهر بالمؤمن في الدنيا يشهر الله به في الآخرة، وكما فضح المؤمنين يفضحه الله على رءوس الأولين والآخرين، وشتان ما بين الفضيحتين! وشتان ما بين العذابين! - ثم هناك وجهٌ ثانٍ في قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] : وهو أنه إذا قيل: إن المراد بالآية غير قَذَفَة عائشة، فيكون المعنى: كل مَن روَّج الشائعات التي تفضي بحصول الفحشاء، وانتشارها بين أهل الإيمان، أو كان داعية إلى الفجور كدعاة الزنا ودعاة الخمور ونحو ذلك ممن ينشرون ما حرم الله، ويدعون إليه، ويسهلون السبيل لبلوغه والوصول إليه، هؤلاء لهم عذاب أليم في الدنيا، ولهم عذاب أليم في الآخرة، فشهد الله عز وجل أنه سيعذبهم بعذابين، ولذلك تجد دعاة الباطل والهوى وأصحاب الفسوق والردى في عذابٍ وقلق نفسي لا يعلمه إلا الله عز وجل، فيعذبهم الله في أنفسهم، فإذا فتشت عن قلب أحدهم وجدته أشد ما يكون احتراقاً والعياذ بالله من داخله، يتلذذ بالشهوات في جسده، يصيب الزنا والخمور واللواط والعياذ بالله وغيرها من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وفي داخله يحترق جحيماً والعياذ بالله، في قلق واضطراب لا يعلمه إلا الله عز وجل {جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26] ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33] ولذلك تجدهم مهما تلذذوا بالشهوات يسلبهم الله عز وجل لذتها، فيشربون الخمر ليجدوا لذة الساعة، وبعدها يجدون عذاب الدهر والعياذ بالله، فهذا هو عذاب الدنيا، ولربما يعذبهم الله عز وجل في الدنيا بصرف القلوب عنهم، والأنظار، ولذلك تجد أهل الفحش والعياذ بالله في سُخْط من الناس، مهما عجبت الناس من أفعالهم وأقوالهم لكنهم لهم كارهون، ولسبيلهم مجانبون، فالمقصود أن الله يعذبهم بذلك في الدنيا، وأما عذاب الآخرة: فعند لقاء الله عز وجل فيعذبهم الله تبارك وتعالى بما شاء من فتن القبور وأهوالها، وفتن النشور وشدائدها، وكذلك فتن جهنم وعذابها، نسأل الله السلامة والعافية من جميع ذلك.
فالمقصود: أن الآية إذا حُملت على العموم فإن المراد بها: أن الله يعذب كل مَن آذاه بإشاعة الفاحشة بين عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة.
ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الغالب في الإنسان إذا دعا إلى الشهوات والفواحش ألاَّ يسلم له عقله، ولذلك قال الله عز وجل حينما نهى عن الفواحش: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ) والغالب أن صاحب الفاحشة مع دعوته إليها أن تجد فيه خفةً وطيشاً في العقل والعياذ بالله؛ لأن العقل يَعْقِلُ صاحبَه عن الأمور الرذيلة، فإذا اجترأ على حدودَ الله عز وجل سلبه الله نورَ العقل، ولذلك كم رأينا وسمعنا من عواقب كُتَّاب وشعراء وغيرهم ممن دعوا إلى الفواحش، كانت أوبأ العواقب وأسوأها والعياذ بالله، حتى ولو كان ذلك بمجرد كلمة يشيعها ويذيعها نسأل الله السلامة والعافية من جميع ذلك.