المسألة الثالثة: إذا عرفنا حقيقة الزنا وما يجب بالنسبة للزاني البكر، فالسؤال: ما حكم الزاني الثيب؟ الثيب: هو كل من تزوج، ووطئ في نكاح صحيح، مسلماً، عاقلاً، بالغاً، فإذا تحقق الإسلام، مع البلوغ، مع العقل، مع نكاح صحيح، ووطءٍ صحيح فإنه يُحْكَم بكون الإنسان ثيباً، ولو أن رجلاً تزوج امرأة وعَقَد عليها ولم يدخل بها ثم زنا قبل الدخول بها، فإنه لا يزال بكراً، ولا يُحْكم بكونه ثيباً بمجرد العقد.
فالثيوبة بإجماع العلماء يشترط فيها الدخول.
وبناءً عليه: فمتى تحقق هذا الوصف -وهو كون الزاني ثيباً- فإن الحكم أنه يُرْجَم، وهذا بإجماع السلف والخلف، خلافاً للخوارج الذين يقولون: إن الثيب إذا زنا لا يرجم؛ لأن الله عز وجل أوجب جلد الزاني ولم يوجب رجمه.
ونجيبهم: بأن السنة دلت على الرجم، كما في الحديث الصحيح الذي سبقت الإشارة إليه، فحكمه أنه يجلد أولاً ثم يرجم بعد جلده.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يُجلد الثيب قبل أن يُرجم أم لا؟ وذلك على قولين: فذهب الإمام أحمد وداوُد الظاهري وطائفة من السلف إلى أن الثيب إذا زنى يُجمع له في العقوبة بين أمرين: - أحدهما: جلده مائة جلدة.
- ثم بعد ذلك يرجم سواءً كان رجلاً أو امرأة.
وهذا القول دليله حديث عبادة بن الصامت عند أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه من قوله عليه الصلاة والسلام: (.
والثيب بالثيب؛ جلد مائة والرجم) .
وذهب الإمام أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمة الله على الجميع إلى أن الثيب يرجم ولا يجلد، واحتجوا بحديث ماعز في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجمه ولم يأمر بجلده، فدل على أن الثيب يرجم ولا يجلد، وهكذا المرأة التي اعترفت بالزنا أمر برجمها ولم يأمر بجلدها، قالوا: فهذا يدل دلالة واضحة على أن الواجب هو الرجم دون الجلد.
وأصح الأقوال -والعلم عند الله- هو الجمع بين الجلد والرجم؛ لأن حديث ماعز وحديث المرأة التي اعترفت بالزنا، فأمر بها، فرجمت، لم يُذكر فيها الجلد، وسُكت عنه، وحديث عبادة نطق فيه بوجوب الجلد، والقاعدة: أنه إذا تعارض المسكوت عنه والمنطوق به فيقدم المنطوق على المسكوت عنه، فاستدلال الجمهور من باب المسكوت عنه، واستدلال الإمام أحمد وداوُد من جهة المنطوق، وهذا أقوى، ولذلك يقال بالجمع بين الجلد والرجم على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله.
إذا ثبت هذا فإن هذه العقوبة، وهي معاقبة البكر بجلد مائة وتغريب عام، ومعاقبة الثيب بجلد مائة والرجم، هذه العقوبة، نسخ الله عز وجل بها حكماً سابقاً، ذلك أنه كان في أول الإسلام إذا زنى الرجل أو زنت المرأة يُحبس كل منهما حتى يتوفاه الموت، فجعل الله عز وجل الفَرَج والمخرج، ولذلك ورد في حديث عبادة الذي سبقت الإشارة إليه قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر؛ جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب؛ جلد مائة والرجم) .