{اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ} وهو الوهم؛ لأنه لم يتمحض في باب العلم الحقيقي.
إذاً: لم يجتنبه، وأراد أن يمضي في الوهم، وأن ينتقل من الظن إلى العلم فذهب يتجسس، فوجد شيئاً أو ارتاب، عندها نجد أن القرآن ينهى عن التجسس، والسنة النبوية أيضاً نهت عن التجسس، (ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً.
وكونوا عباد الله إخوانا) .
وننبه هنا على نقطة مهمة جداً، وهي: ما يختص بالإخوان الذين يرون في أنفسهم الأهلية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الذين نصبوا من طرف الإمام، والذين يقال لهم: أهل الحسبة، فالآمر والناهي إما محتسب -أي: منصب من جانب الإمام- وله سلطة من طرف الإمام، أو متطوع متبرع: (من رأى منكم منكراً فليغيره) ، وإذا ما أشيع عنده أو وقع عنده ظن ببيت فيه ما ينبغي الإنكار عليه لا يحق له شرعاً أن يذهب يتجسس ليتحقق من هذا الظن؛ لأن الله نهاه عن التجسس، كما يروي مالك في الموطأ: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات؛ فليستتر بستر الله، فمن أبدى لنا صفحته أخذناه بها) ، ويقول مجاهد رحمه الله: (خذوا ما ظهر لكم، واتركوا ما ستر الله عليه) .
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أتاه، وقال: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، قال: (نهينا عن التجسس، إن يبدي لنا صفحته أخذناه بها) .
وجاء عن كاتب عقبة بن عامر أنه قال له: (إن لنا جيراناً يشربون الخمر، وأنا ذاهب بالشرط ليأخذونهم، قال: لا تفعل وارجع وعظهم وانصحم وتهددهم، ولا تبلغ أمرهم إلى الشرط، فرجع ووعظهم وزجرهم، ثم رجع وقال: فعلت ولم ينتهوا، فإني ذاهب أستدعي لهم الشرط يأخذونهم، قال: لا تفعل، سمعت رسول الله يقول: (من ستر على مسلم خبأة -يعني: عيباً- كان كمن أحيا موءودة من قبرها) ، هذا الحديث يذكره علماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلماء الحسبة والدعوة، ويذكره الخطيب البغدادي في الرحلة في طلب العلم، قال: إن أبا أيوب الأنصاري أخذ راحلته وذهب إلى مصر حتى أتى إلى الفسطاط، وجد محمد بن مسلمة وهو الأمير عليهم، قال: أين بيت عقبة؟ قال: ما الذي جاء بك أزائرا أم لحاجة؟ قال: جئت لحاجة عنده، أرسل معي من يدلني على بيته، فذهب إليه فرأى عقبة -وهذا أنصاري، وأبو أيوب أنصاري- فقال له: إن أبا أيوب الأنصاري في الباب، فأسرع إليه ولقيه وعانقه وقال له: ما أتى بك يا أبا أيوب؟ قال: جئت لأسمع منك حديثاً، لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا وأنت، فأردت أن أتثبت منه.
وانظروا: الهمة في طلب العلم: يرحل إلى القاهرة على بعيره في الصحراء، من أجل أن يسمع حديثاً كان قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال عليه العهد، وأراد أن يتثبته ممن سمعه معه وهو عقبة بن عامر - قال: جئت لحديث لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا وأنت، وهو فيمن ستر على مسلم، قال: نعم.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر على مسلم في الدنيا - وقد جاءت له ألفاظ متعددة- ستره الله يوم القيامة، أو كان كمن أحيا موءودة من قبرها) ثم قال له: السلام عليك، ورجع إلى راحلته، وما أدرك أبو أيوب إلا في عريش مصر.
هكذا يقول الخطيب البغدادي في كتاب رحلة طلب العلم، ونحن نسمعكم لفتة بسيطة في طلب العلم، ونستطيع أن نقول: إن البعثات للدراسات الغير موجودة في البلد لا بأس بها ,وهذا أصل فيها، وهو أن نرحل لطلب العلم الغير موجود عندنا إذا كانت هناك خصوصيات أو اختصاصات والبلد بحاجة إليها وهي غير موجودة في بلد الإنسان فله أن يرحل إليها، ولكن هل إذا ذهب ليدرس يسترخي ويطمئن إلى الحياة هناك ويترك بلده ومهمته التي سافر من أجلها ويسكن في تلك البلاد؟ أو أنه يؤدي المهمة ويحصل على العلم الذي بعث له ويرجع به إلى بلده فينفع أهل بلده؟ هكذا أبو أيوب بعد ما سمع الحديث رجع إلى راحلته، وقال: جئت لقضاء حاجة وانتهت.
ويهمنا في هذا الحديث: (من ستر مسلماً) ويتفقون على روايات عن عمر كما جاء عن الزبير قال: (حرست أنا وعمر ليلة -وعمر رضي الله عنه كان يعس ليلاًَ في المدينة ويتسمع الأخبار، ويتعرف على حال الناس في الليل، وقد يتصدق بدون أن يعلم به أحد، وقد يعرف أخبار الناس- فقال عمر: هذا بيت فلان -سماه- مجافىً عليهم الباب، وهناك سراج ولغط وشرب فما ترى؟ فقال له الزبير: أرانا يا أمير المؤمنين أتينا ما نهانا الله عنه، نهانا الله عن التجسس وقد تجسسنا، قال: فتركهم عمر وانصرف) .
وعلى كل فإن الآمر النهي بالمعروف له ما ظهر وليس من حقه أن يتتبع بالتجسس فيفسد أحوال الناس ما دام الأمر مستتراً، بخلاف ما إذا ظهرت آثاره بأصوات أو روائح.
إلخ؛ حينئذٍ لم يبق حيز الاستتار، فوجب تغييره لمن استطاع ذلك.