{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، تقدم البيان بأن الغيبة هي: ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه، كما بين صلى الله عليه وسلم: (إن كان ما ذكرته فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) ، والبهتان شيء عظيم، وبين المولى سبحانه صورة عملية مثالية، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} ألا تكرهونه، وأحدكم هنا فرد يعم الجميع على سبيل البدل -أي: كل واحد من المجموعة- أن يأكل لحم أخيه ميتاً حتى لو كان حياً يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه.
وأشرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين ذكرا ماعزاً لما اعترف ورجم فقالا: (لم يرض بستر الله عليه حتى جاء واعترف حتى رجم رجم الكلب) ، سمعها صلى الله عليه وسلم، فسكت حتى مر بتيس أسك أو بحمار قد انتفخ فقال: (فلان وفلان! قالا: نعم يا رسول الله، قال: انزلا فكلا من هذه الميتة، قالا: يرحمك الله يا رسول الله، أتؤكل هذه الجيفة؟ -استعظما الأمر- قال: والذي نفسي بيده، للذي قلتما في أخيكم -أي: ماعز - أشد من أكلكما هذه الجيفة، والله إنه الآن ليرتع في بحبوحة الجنة) .
لا ينبغي للإنسان أن يغتاب أخاه سواء كان عن عيب نشأ عن تجسس أو عن أمر ابتدائي، ومهما كان الأمر ولو كان إشارة باليد، كما جاء عن صفية رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفاً مع إحدى نسائه فمرت من أمامهما صفية، فقالت: ما يعجبك منها؟ يكفيك أنها وأشارت بيدها -يعني: أنها قصير- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ، والتعبير هنا بماء البحر دون ماء النهر لأن ماء النهر عذب، وأقل شيء يؤثر فيه، وماء البحر مالح لا يتأثر إلا بشيء غلب عليه، وكما يقولون: الماء المخلوط بالملح أو السكر يمنع أن يتشرب ما يدخل عليه من بكتيريا وغيره، فمثل بالبحر لبعد تأثره بما يقع فيه: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) فكيف بأكبر من ذلك: (فكرهتموه) ؟!